الملقي: سنبدأ بالمعرفة، ولعلي أبدأ بالقاعدة المشهورة، أعني الحكم على الشيء فرع عن تصوره؟ الشيخ: نعم، الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وينبغي أن نعرف أول الطرائق إلى الإنصاف؛ لأن الإنسان عدو ما يجهل، فإذا جهل شيئاً أصبح غير مقبول في الحكم عليه، ولذلك كثير من الأشياء نجهل تعليلها ولا نفقه لماذا وقعت؛ لأننا لا نعرف كل شيء عنها، فنبدأ بمثال بسيط من السنة.
حكى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، فينزل عليه صلى الله عليه وسلم القرآن {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا}[المرسلات:١] قال: فبينا نحن نأخذها رغبة من فيه صلوات الله وسلامه عليه إذ خرجت حية، فقال صلى الله عليه وسلم:(ابتدروها فاقتلوها، قال ابن مسعود: فابتدرناها فدخلت، فقال عليه الصلاة والسلام: وقاكم الله شرها كما وقاها شركم)، وفي رواية أخرى حسنها الألباني نسبة إلى هذا الشاهد:(أنه أمر بإدخال نار حتى تخرج).
موضع الشاهد هنا: من كان يجهل قضية الحية يتعجب من هذا الفعل، فيأتي إنسان ذو بضاعة مزجاة فيقول: هذا نبي الأمة والصحابة حوله يقرءون القرآن فتخرج حية فقاموا إليها وكان المفروض أنهم منشغلون بالذكر وبالخشوع؛ لأن عنده الجهل بالحية.
فلأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن الحية عدو لم يترك لها مجالاً، ولهذا قال في حديث آخر:(الحية أخت العقرب)، وقال:(لعن الله العقرب ما تدع نبياً ولا غيره)، وفي حديث:(لا تدع مصلياً ولا غيره).
هذا المثال البسيط يبين لنا أن المعرفة بالشيء تجعل الإنسان متصوراً لأشياء كثيرة، فلهذا يحتاج إلى المعرفة كل من يريد أن ينصف أحداً أو يحكم على أحد؛ لأن الإنصاف فرع عن الحكم لما يريد أن يحكم عليه، والحكم فرع عن المعرفة.
وبعبارة أخرى: الإنصاف نوع من الحكم، والحكم فرع عن المعرفة، لكن من كان جاهلاً لا يمكن أن ينصف، والإنسان الذي جهل نفسه جهل قدره، فإذا جهل من حوله لم يحسن التعامل عليها، كالباعة مثلاً أو السوقة لا يعرفون قدر العلم، ولا يعرفون قدر العلماء.
وهكذا كل أحد يجهل أحداً يكون تعامله معه بإجحاف لا بإنصاف، بخلاف من كان يعرف فهذا أقرب إلى الإنصاف من غيره، ولهذا جعلنا المعرفة باب كل شيء وجعلناها المعيار الأول، فلن يعبد الله إلا من يعرف الله، فالمعرفة مدخل عظيم لكل شيء.