[الوفاء في التعامل]
وبدأنا به لأنه هو الأصل في الوفاء بحسب القرآن، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل:٩١].
الإنسان يعيش وسط مجتمع، سواء في مجتمع كافر أو مسلم، وسواء في مجتمع مدني أو قروي، هذه الخلطة بين الناس تدعو إلى الحاجة لأن يتأصل فيهم الوفاء في التعامل.
ألفاظ التعامل يأخذ جوانب متفرقة، ولا نستطيع أن نقول إن له تعريفاً واحداً كما يصنع الفقهاء، لكن نقول: من ذلك الوفاء لمن استودعك وديعة ثم جاء من هو أقدر منك يطلبها.
والعرب تضرب المثل بـ السموءل، وذلك أن امرأ القيس بن حجر، كان شاعراً وكان أبوه ملكاً، وكانت الملوك ترى أن الشعر يخل بالملك فكان الملك ينفي ابنه فانتفى امرؤ القيس عن أبيه وبعد عنه لشاعريته، ثم قتل حجر والد امرئ القيس وجاء الخبر لـ امرئ القيس فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، اليوم خمر وغداً أمر، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، وأخذ يصنع ما يصنع لاسترداد ملك أبيه حتى دل على قيصر، وكان قيصر في أنقرة في تركيا.
فلما أراد التوجه إليها دل على السموءل الذي كان يملك قصراً في تيماء البلدة المعروفة المباركة في بلادنا، فأخذ أسلحته وأدرعه وسائر أمواله واستودعها السموءل.
ومات امرؤ القيس في تركيا، فجاء ملوك كندة يطالبون بالأدرع والأسلحة التي وضعت عند السموءل، ولكن السموءل اشترط أن يستلمها ورثة امرئ القيس، فطوق القصر ولم يجدوا سبيلاً إلى الوصول للسموءل؛ لكنهم وجدوا ابن السموءل خارج القصر فأخذوه وأبوه ينظر إليه وهددوه بقتله إن لم يسلم لهم المال، فأبى ذلك ووافق على أن ينحر ابنه أمام عينيه فضلاً عن أن يسلم الأدرع والأسلحة، فضربت به العرب مثلاً في الوفاء أي السموءل بن عادياء.
يقول الله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:٩١]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الوفاء في بيعه وشرائه وتعامله مع من كان يقرضه مالاً.
وقد احتاج عليه الصلاة والسلام فاقترض ثم وفى وزاد في القضاء، فكان إذا أخذ بعيراً أو جملاً وفى بأكرم منه وأفضل، وهذا لا يسمى رباً إذا لم يكن عن شرط، فلا يدخل في الأثر المشهور: كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
غاية الأمر أن التعامل بين الناس ضابط في قضايا الوفاء، لكنهم يقولون: ما استوفى قط كريم، بمعنى: أن الكريم لا يأخذ حقه كاملاً إذا استوفى من الغير.
وينبغي أن تفرق بين الوفاء الذي تعطيه لغيرك والوفاء الذي تطلبه من غيرك، والله يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:١ - ٣]، أي: أنهم في الشيء الذي لهم يستوفون، وفي الشيء الذي عليهم يخسرون، فهذا يندرج تحت مضمون الوفاء.
الغاية من هذا أن التعامل يتجلى فيه خلق الوفاء، كصاحب عمارة عنده أجير، فمعنى الوفاء بينهما في التعامل أن هذا يؤدي الذي عليه وهذا يؤدي الذي عليه، فصاحب العمل يعطي الأجرة كاملة (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وعلى الأجير أن يعمل مخلصاً لصاحبه، ولا يدخل بنية أن يتجمل سنة ثم يضيع حقوقه، فهذا ليس من الوفاء.
هذا عنوانه العام (الوفاء في التعامل) ولهذا يقول الله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦].
وقدم الأخ لأنك عندما تتعامل مع أخيك وأمك وأبيك وصاحبتك وبنيك جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يظلم أحداً من هؤلاء فإنه يظلم الأخ قبل أن يظلم أمه وأباه، ثم يوفي مع أمه وأبيه أكثر من وفائه مع أخيه، ثم يوفي مع زوجته وأبنائه؛ لأنه يشعر بالانتماء إليهم أكثر.
قدم الله الأخ وهو لا يتكلم عن نصرة، إنما يتكلم عن مطالبة، والمعنى: إن الإنسان لا يفر عن البعيد؛ لأنه ليس بينه وبينه تعامل، فمثلاً: نحن هنا في الرياض ولنا إخوة في مصر وفي السودان وفي الجزائر، فأنا لا أفر منهم يوم القيامة ولا يفرون مني؛ لأنه ليس بيننا علاقة حتى يطالبوني بحسنة وأطالبهم بحسنة، لكن أفر من أخي لأنني أحتك به، أفر من أمي وأبي؛ لأنني أحتك بهما، أفر من زوجتي وأولادي في المقام الأخير؛ لأن احتكاكي بهما وظلمي لهما وارد لكنه ليس كورود الظلم على الأخ.
هذه قضية الوفاء في التعامل، وأرجو الله أن تكون الصورة قد اتضحت جلية.