للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أسباب دخول الجنة]

المقدم: ما هي أعظم الأسباب التي ممكن أن يدخل الإنسان بها الجنة؟ الشيخ: الجنة جعلنا الله وإياكم من أهلها من أعظم الغايات وأجل العطايا وأصفى الهبات، الجنة دار وعدها الله جل وعلا عباده، قال ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:١٠٧ - ١٠٨].

وقال عن أوليائه المتقين: {الجَنَّة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:٦].

وأعظم سبيل إلى الجنة توحيد الرب تبارك وتعالى، وحظ الإنسان من ربه جل وعلا بقدر ما لله تبارك وتعالى من قدر في قلبه، قال الله جل وعلا ينعي على أهل الإشراك عدم معرفتهم بربهم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:٩١].

وقال جل ذكره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].

الطريق إلى الجنة لا يمكن أن يمر بلا توحيد لله تبارك وتعالى، التوحيد أمر الله به الملائكة -وهم غير مكلفين- لكنهم جبلوا عليه.

أمر الله به الجن والإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].

أمر الله به الأنبياء والرسل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:٤٥].

وقال الله جل وعلا في أكثر من آية يبين لخلقه وعباده أنه ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب ولا أقام الآيات والشواهد والبراهين إلا ليوحد تبارك وتعالى دون سواه ويدعى من دون غيره: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:٥].

فكلما حقق الإنسان توحيد الرب تبارك وتعالى على الوجه الأتم والنحو الأكمل كان حقاً على الله جل وعلا أن يدخله الجنة، قال معاذ: (قلت: يا رسول الله! ما حق الله على العباد؟ قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، فلما أخبرهما ما حق العباد على الله إن وحدوه قال: (أن يدخلهم الجنة).

فالسبيل الأعظم من حيث الجملة توحيد الرب تبارك وتعالى، والإنسان لن يصل إلى طاعة ولن يفر من معصية إلا إذا كان عالماً بالرب جل جلاله.

والعلم بأسماء الله وصفاته أسمائه الحسنى وقدرة الله تبارك وتعالى من أعظم ما يقرب العبد من ربه الله جل وعلا، فقد نثر الآيات وأقام البراهين وأبان الحجج حتى تدل على كماله جل وعلا وعلى وحدانيته وعلى أنه الخالق وحده دون سواه، وجعل للناس أبصاراً يرون بها هذه الآيات، يرى ذلك البر والفاجر، والمؤمن والكافر؛ لكن المؤمنين الصالحين القانتين الراغبين بما عند الله يرون هذه الآيات ببصيرتهم، فإذا رأوها ببصيرتهم دلتهم على الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].

فإذا حشر العباد على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين وليس فيها ملك لأحد، جاء أولئك الذين رأوا تلك الآيات فدلتهم على ربهم تبارك وتعالى فأدخلوا الجنة، ثم يكرمهم الله برؤية وجهه الأكرم الذي هو أعظم الغايات، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦]، والزيادة: رؤية وجه الرب تبارك وتعالى.

وفي حديث صهيب عند مسلم في الصحيح: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا، ألم يجرنا من النار، ألم يدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى).

والله جل وعلا حتى يربط العباد بهذه النعمة أظهر لهم ضعف المخلوقين أجمعين، فشج رأس نبينا صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعلق به الأصحاب، وتكسف الشمس، ويخسف القمر، وتمور الأرض، وتكور الشمس، وتنسف الجبال، وتنشق السماء وتصبح كالمهل، كل ذلك حتى لا يبقى للناس تعلق بأحد إلا الله.

ألا يرى المؤمن أن الله جل وعلا رزق إبراهيم ابنه إسماعيل على الكبر فتعلق قلب إبراهيم بإسماعيل، فلما أراد الله جل وعلا أن يخرج حب إسماعيل من قلب أبيه إبراهيم حتى لا يكون في قلب إبراهيم أحد إلا الله أمره الله جل وعلا بذبحه، فساق الأب ابنه إلى الموت فوضعه على الجبين حتى لا تلتقي العينان فيتغير العزم الذي فيهما، يقول الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:١٠٣]، أي: إسماعيل وإبراهيم من قبل قلبهما لله ولم يبق في قلبهما أحد غير الله، قال الحق تبارك وتعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:١٠٥ - ١٧].

يقول ربنا على لسان الخليل نفسه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٧ - ٨٩].

يدخل الجنة ويفوز برؤية الله من سلم قلبه من الشرك وملئ بالتوحيد، من سلم قلبه من البدعة وملئ بالسنة، من سلم قلبه من الغل والحقد والحسد وملئ بالإيمان وحب الخير للناس؛ فهذا أعظم ما يدخل الناس الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، فيقول الله له: يا عبدي أظلمك كتبتي الحافظون؟ أتنكر مما ترى شيئاً؟، يقول: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا له: إن لك عندنا بطاقة، فيقول: يا ربي! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات)، وفي البطاقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (ووضعت البطاقة فرجحت فطاشت السجلات)، ولا يثقل مع اسم الله شيء.

هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديان هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران وبه فدى الله الذبيح من البلى لما فداه بأعظم القربان هو دين يحيى مع أبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن.

المقصود: أن السبب الأعظم في دخول الجنة توحيد الله ومحبته وإجلاله وتعظيمه، والله جل وعلا ذم أهل الكفر بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:٣٥]، فاستكبارهم عن هذه الكلمة: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]، كل ذلك رده الله تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>