للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التجرد عن الهوى]

الملقي: ذكرتم هذه الخصائص قبل قليل، وثاني هذه الخصائص: هو التجرد من الهوى؟ الشيخ: إن الهوى في طبعه غلاب.

والتجرد من الهوى مرحلة أو نقطة أساسية في حصول الإنسان على الإنصاف، وبالأمثلة تتضح الأمور كثيراً، هناك كتاب: (المائة الأوائل) ألفه دكتور ماركل هارت، أراد أن يجمع فيه بعد أن استقصى التاريخ استقصاء معرفية، ولذلك قدمنا المعرفة، بعد أن نظر في الأشخاص الذين أثروا في التاريخ، وكانت لهم أقدام راسخة: يقول شوقي: ليس الخلد مرتبة تلقى وتؤخذ من شفاه الجاهلينا ولكن منتهى همم كبار إذا ذهبت مصادرها بقينا وسر العبقرية حين يسري فينتظم الصنائع والفنونا وأخذك من فم الدنيا ثناءً وتركك في مسامعها طنينا هذا الرجل تجرد أولاً من هواه، وهو مسيحي، لكنه جعل المسيحية وهو يحكم وراء ظهره، وبحسب معايير وضعها متجرداً من الهوى، نظرت الأشخاص المؤثرين في تاريخ البشرية كلهم من آدم إلى أن تقوم الساعة.

والمهم أنه كان متجرداً من الهوى، ثم من غير حساب وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأول، وهو يقدم الكتاب للعالم المسيحي يقرءونه فجعل النبي عليه الصلاة والسلام في الأول وجعل إسحاق في الثاني، والثالث: عيسى بن مريم، وجعل السادس عشر موسى، والسابع والعشرين: جورج واشنطن، والواحد والخمسين: عمر بن الخطاب، وهكذا، وكان يحتاج إلى دعم بياني في سبب اختار النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وجدت أن هذا الرجل أكثر الرجال في تاريخ البشرية تأثيراً دينياً ودنيوياً.

ونحن نعلم ذلك يقيناً معشر المسلمين.

فالشرف للكتاب لا له هو عليه الصلاة والسلام فقد زكاه ربه، زكى الله جل وعلا صدره، زكى الله جل وعلا بصره ومر معنا هذا كثيراً، يكفيه قول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]، فالله جعل هذا النبي الكريم أمنة من العذاب، لكن الذي يعنينا هنا هو التجرد من الهوى، فلهذا نحكم على هذا المؤلف: ماركل هارت أنه كان رجلاً منصفاً.

وقد بدأت به؛ لأنه رجل أنصف النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في تاريخنا الإسلامي مثلاً، كلنا يعرف قضية حادثة الإفك، فـ عائشة رضي الله عنها رميت بـ صفوان بن المعطل، ثم برأها الله، فمن اتهمها بعد تبرئة الله جل وعلا فقد رد على الله جل وعلا كلامه.

الذي يعنينا من القضية هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى البشرية لما تأخر الوحي عنه استشار من حوله، وممن كان حول عائشة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها التي زوجها الله لنبيه، وهي المنافسة لـ عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري ولا أقول إلا خيراً)، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (فعصمها الله بالتقوى، رغم أنها هي التي كانت تساميني من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم).

وهذه مرحلة عليا في الإنصاف، مع أن أختها حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها وقعت في حديث الإفك، تريد أن تنصر أختها وصدق الله إذ يقول: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:٢٦].

هناك مثال آخر: من المعلوم أن الأندلس دخلت الإسلام في عهد بني مروان، ثم ظهرت دولة بني العباس على يد أبي العباس السفاح، ثم آلت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور المؤسس الثاني لدولة بني العباس.

في تلك الفترة ظهر عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الملك بن مروان المعروف بـ الداخل، ودخل الأندلس بمفرده وأسس فيها الدولة الأموية وأقام ملكاً استمر قرابة ثلاثة وثلاثين عاماً، كان يكنى بـ أبي المطرف وهو يعرف بـ الداخل، من الذي لقبه صقر قريش؟ الذي لقبه بـ صقر قريش غريمه وخصمه أبو جعفر المنصور.

فمعنى ذلك: أن أبا جعفر المنصور ارتقى إلى مرتقى عال جداً في قضية الإنصاف، حتى يقال: من بطش عبد الرحمن الداخل أن أبا جعفر المنصور بعث له أناساً يقتلونه، لكن ظفر بهم عبد الرحمن الداخل فقطع رقابهم وكتب أسماءهم ثم علق الورقة المكتوب فيها اسم كل واحد منهم في إذنه.

فأصبحت الرأس معلقة في الورقة في أذنه، ثم وضعها في جوالق أشبه بالبراميل الكبار، ثم أعطاها تاجراً ثقة لديه، وقال: اذهب بها إلى مكة، فأدخلها التاجر الحجاز فوافق تلك السنة موسم الحج وكان المنصور قد حج بالناس، ووضع له عند باب إقامته، فلما خرج أبو جعفر رأى تلك الرءوس، وفيها رأس سيدهم الذي بعثهم، فلما رأى رأس سيدهم الذي بعثهم قال: الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر! موضوع الشاهد: أن أبا جعفر كان منصفاً عندما نعت عبد الرحمن الداخل بأنه صقر قريش.

هذه الأمثلة ليس المقصود منها الإشباع المعرفي، وإنما المقصود أن نتحلى به في تعاملنا مع الناس، وهذا هو المهم جداً من البرنامج، والغرض من إيراد هذا الموضوع أن نكون منصفين عندما نتحدث عن غيرنا، مثل زميل في العمل، أنت إمام وهو إمام، أنت مؤذن وهو مؤذن، أنت مدير وهو مدير، أنت أمير وهو أمير، وهكذا في الحديث عن الأنداد أو عن المدراء أو عن الجيران, ينبغي أن يكون حكمنا على الناس بإنصاف متجرداً من الهوى، لكن مغالبة الهوى كما تعلم أمر صعب جداً لا يستطيعه إلا القليل، وما ذم الله شيئاً في كتابه مثلما ذم الهوى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٣ - ٤٤].

<<  <  ج: ص:  >  >>