[الحكماء في الأدب والشعر والسياسة]
الملقي: ننتقل يا شيخ إلى ما يتعلق بالشعر والأدب، فالتاريخ مليء بكثير من الحكماء منهم، حتى إن بعض الأبيات أصبحت حكماً مشهورة بين الناس، ومن هؤلاء المعري والمتنبي وأسماء أخرى لعلك ستذكرها.
الشيخ: كما ذكرتم المعري والمتنبي قامتان أدبيتان رفيعتان أدبياً، وليسا قدوة، فالتجارب حنكتهما، فـ المعري سمي نفسه رهين المحبسين، ويقصد حبسه نفسه في بيته مع العمى، فقد أصيب بالجدري على ما يذكرون فعمي، ثم رحل إلى مواطن العلم آنذاك حتى وصل إليها، فجمع علماً ثم عاد إلى مقره في المعرة وإليها ينسب، وهناك أخذ يدرس ويملي، وله كتب شهيرة منها: سقط الزند، ومنها: معجز أحمد، هو شرح لديوان المتنبي.
والمتنبي قبله زمناً، وقد كان طالب سياسة وطالب كرسي بتعبير أصح، ولم ينله، وقد خاض تجارب عدة صقلت حياته، لكنه رغم ما أعطاه الناس من أبيات حملت معنى الحكمة إلا أنه لو كان حكيماً موفقاً لنال مقصوده، لكنني أقول بوضوح: المتنبي على كثرة حب الناس له لم يعط الحكمة في نفسه وإن كان قد قالها، فنعم قد قال أبياتاً جرت مجرى المثل بين الناس، كقوله: أنا الغريق فما خوفي من البلل وله أبيات عديدة لا تحصى في قضية الحكمة، وكذلك المعري يقول: خفف الوطء ما أظن الـ أرض من هذه الأحساد سر إن اسطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد في قصيدة مشهورة أولها: غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي والعجز فيما يظهر لي في المشترك بينهما هو الذي أعطاهما الحكمة.
فـ المتنبي لا يعقل إن أحداً يطلب ملكاً وأمارة وجاهاً وهو رافع الرأس؛ لأن الرأس إذا رفع قلم، فهو أراد أن ينافس سيف الدولة ولا ينشد عنده إلا وهو قاعد ولا يقوم كما يقوم الشعراء، ويقول بين يدي سيف الدولة: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم وهو نفسه يقول لـ سيف الدولة ينصحه: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا يعني: لا يوجد عاقل يستعمل رجلاً قوياً أقوى منه؛ لأنه سينقلب عليه، فالله عليك تسدي إليه نصيحة كهذه وتريد منه أن يعطيك أمارة! فهذا لا يعقل.
ثم لما ذهب إلى كافور مدح كافوراً وأثنى عليه وأخذ يبجله، وكافور كان موفقاً يقولون: كان فيه كثير من الصلاح، فقال: هذا وهو شاعر فكيف لو أخذ إمارة!! فلم يكن المتنبي يعرف الطريقة المثلى ليحقق مقصودة.
وأما المقصود الأخروي فما ذكروا عنه ديناً، وإنما ذكروا عنه ولعه بالدنيا، وها هو لم يستطع أن يحصل منه شيئاً، رغم أن الناس حصلوا من تجربة المتنبي التي ضمنها شعره على فوائد كثيرة.
والمعري أضر به كونه كفيفاً، فانقلب حاله إلى نظرة تشاؤمية، وأبى أن يتزوج، وهذا ضعف، ويقولون: إنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد ويقولون: إنه تجنب أن يأكل اللحوم وما أشبه ذلك، وهذا سبب نظراته التشاؤمية رغم أنه له أبيات شهيرة في الحكمة، وعلى العموم فالتاريخ أدبياً وسياسياً عرف أناساً حكماء.
وقد قرأت مرة في سيرة السادات الرئيس المصري رحمة الله عليه، وهذا من دلائل الحكمة فمن ترجموا له وعاصروه يقولون: إنه كان إذا جاءه الريح أو الإعصار يطرق لها رأسه، وهذا من العقل؛ لأن الإنسان إذا واجه الإعصار كسر، وهلله الإعصار وانتهى، لكن إذا أطرق رأسه مر الإعصار، ثم يقوم الإنسان من جديد فيستمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن تهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم) رغم أن الكعبة بيت الله؛ لأن الكعبة لو هدمت فإنها تبنى، لكن المسلم إذا قتل فلا سبيل إلى إعادة جسده، فعندما يكون الإعصار أو الشدائد قوية فلا بأس أن ننحني مادام أنه ليس انحناء عقدياً، حتى نقوم بعد ذلك ونكمل المسير، وهذا من الحكمة.
الملقي: هذا الانحناء يا شيخ ليس على إطلاقه، وإنما يكون في بعض المواقف.
الشيخ: هو أصلاً لا يسمى انحناء بالمعنى الحرفي، لكن الإنسان الحماسي يسميه انحناء ويقول: هذا خوف وهذا جبن، لا هذا ليس خوفاً ولا جبناً، وإنما هذا من الحكمة، ولذلك فالأمر كما قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني وسيد الخلق المعصوم من أذى الناس بنى خندقاً؛ حتى يتقي به شر الكفرة، فلا يأتينا أحد يجازف بالأمة في المهالك، ولبس درعين صلى الله عليه وسلم يوم أحد.