للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفوائد المستنبطة من ذكر سير السلف الصالح]

المقدم: هذه الأخبار وهذه القصص ليست غاية في ذاتها، فما هي الفوائد والثمرة التي يمكن أن تجتنى من وراء هذه القصص؟

الجواب

العلم توفيق، لكن من طرائق جمعه والحصول على العلم: صحبة الأكابر، فـ أبو يوسف ومحمد بن الحسن وصلا إلى هذه المنزلة في العلم لصحبتهما لـ أبي حنيفة، ولهذا من الخطأ كما نراه اليوم صحبة الأصاغر، وأنا أتكلم عن الأكابر والأصاغر في العلم، فالأعمار بيد الله، لكن المتقدم في السن من العلماء، والذي تقدم في العلم حري بطالب العلم أن يلزمه، ويتضرر المرء إذا كانت صحبته لأنداده، أو لمن دونه في الزوايا والخفايا، فتلك الأماكن لا يصنع فيها علم، وإنما تصنع فكراً مريباً، لكن العلم إما في الجامعات والمدارس والحلقات المعروفة الظاهرة البينة المكشوفة، أو في المساجد كالحرمين في المقام الأول، ويكون على يدي الأكابر في المقام الأول، أي: الأكابر علمياً، فقد يكون المرء صغير السن، كبير العلم، واسع العقل، لكن مع ذلك أقل شيء أن يكون في سن الأربعين حتى يؤخذ عنه ويلازم؛ لأن التجارب لها دور في صقل المرء، فقد يظهر هو، وينفع دون الأربعين، لكن لزوم الطلاب له لابد أن يكون متأخراً؛ حتى يستفيدوا منه، فـ محمد بن الحسن وأبو يوسف رحمة الله تعالى عليهما حظيا بعلم جم عندما صحبا أبا حنيفة رحمة الله تعالى عليه، هذه الفائدة الأولى.

الفائدة الثانية: أن المرء وهو يطلب العلم لابد أن يكون ذكياً، فالذكاء مطلب أساسي في تكويننا لجيل يحمل العلم، وقد نبهنا إلى هذا مراراً، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في وصف محمد بن الحسن كما مر معنا: ما رأيت سميناً أذكى منه.

وكان محمد بن الحسن يتوقد ذكاءً، والإنسان يمرر المسائل على عقله، ويجلس مع أقرانه ويطرح المسائل، ولا تكون كالمسائل التي تطرح اليوم حتى فيما يسمى بالألغاز الشعبية، فأكثرها يجنح إلى الوصف، والوصف يقيس مستواً واحداً في الذكاء ولا تقيس كل شيء، لكن طالب العلم الحق يقيس عدة مستويات في ذكائه، ويمرن نفسه على المسائل العلمية، ويمرن نفسه على مسائل الرياضيات وأشباهها؛ حتى يكون ذكياً، وقد مر معنا قضية علي رضي الله عنه وحكمه في الأرض وغير ذلك، فهذه كلها مطالب أساسية.

الأمر الثالث: على الإنسان أن ينوع مناهله، فالإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه كان يعرض أحياناً مسائل دقيقة، فقيل له: من أين لك هذه المسائل؟ قال: من كتب محمد بن الحسن، ثم برر وبين وفصل فقال: إن محمد بن الحسن أخذ علم أهل العراق، وأخذ علم أهل المدينة بتتلمذه ومراجعته على مالك؛ لأنه من أهل المدينة، مع تتلمذه كما ذكرت على يد أبي حنيفة، وأخذ فقه الشام عن الأوزاعي، ثم قال كلمة لابد منها: قال رحمه الله عن محمد بن الحسن قال: وصقله القضاء؛ فالإنسان إذا مارس عملاً: تدريساً أو قضاءً فهذا يصقله، ولهذا قلنا: إن التجارب وطي السنين لها دور كبير في ملكة الإنسان وتذكيتها وتربيتها.

فالمقصود: أن تعدد المناهل يصنع منك أيها الأخ المبارك رجلاً عالماً فذاً، وأما كون الإنسان لا يقرأ إلا لشخص أو شخصين، ولا ينهل إلا من عالم أو عالمين، ويغرق نفسه في دائرة ضيقة، فهذا لا يمكن له أن يتوسع في القول، ولا يستطيع أن يجاري علماء عصره، ولا أن يصدر حتى ينفع الناس في كثير من أحوالهم وقضاياهم.

فتعدد المناهل كان عليه السلف في قضية التعلم، والعاقل لا يجعل بينه وبين المعرفة حجاباً، وإنما يأخذ العلم الحق من أي أحد، لكنه في قضايا الاعتقاد -وهذه مسألة مهمة- لا يأخذها إلا ممن عرف عنه سلامة المعتقد.

هذا الأمر الثاني.

الأمر الثالث: أن التقليد شيء منفر منه، فـ أبو حنيفة رحمة الله تعالى عليه عرض عليه القضاء فأبى، في حين أن أبا يوسف عرض عليه القضاء فقبل، ولم يقل إن أبا حنيفة لم يقبله فلا أقبله، ولهذا فالمصالح تتفاوت، والرجال أنفسهم يتفاوتون، فقد يأتي إنسان معين حري به أن يكون مرافقاً للسلطان مثلاً ويستطيع أن يغير، ويستطيع أن يصنع شيئاً للناس، ويحسن التعامل إذا قرب من أميره وقرب من السلطان، أو قرب من ذوي الجاه، في حين أن غيره لا يحسن، فنقول للآخر: ابتعد، ونقول للأول: اقترب، والعبرة بالمصلحة العامة.

فـ أبو حنيفة ربما رأى نفسه أنه ليس ممن يحسن مجارات نفع الناس من خلال مجارات السلطان، في حين أن أبا يوسف يستطيع أن يفعل ذلك، فكان الرشيد يجله، ولا نقدح في أبي يوسف ونجل أبي حنيفة على هذا الطريق، لكن نجل أبا حنيفة ونجل أبا يوسف، ونعتقد فيهما حسن الظن، ونعلم أن كل منهما نظر في مقوماته وقدراته فاستعملها في الحق، فوصل إلى مقصوده.

والمناظرات أيها الأخ المبارك والمحاورات العلمية ينجم عنها علم جم، لأن الإنسان إذا اطلع على آراء الغير، وبسطت له المسألة بطريقة أكبر قل إنكاره وقل انفعاله، وقل تشدده، لكن نؤتى من الذي لا يعرف إلا شيئاً واحداً، لكن لما كانت هناك محاورات كان محمد بن الحسن يأتي المدينة يقابل مالكاً فيتناقشان في المسائل، فهذا يعرض قولاً، وهذا يعرض قولاً، ثم يسلم هذا لهذا في شيء، والآخر يسلم له في أشياء، وكذلك كان يحصل بين محمد بن الحسن والأوزاعي وغيرهما، فهذه المناظرات والحال الذي كانوا يعيشونه أدى إلى تلك الرفعة في الفقه الإسلامي على وجه العموم، وهذا نفتقده يسيراً في زماننا، وينبغي أن يعاد إلى ما كان عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>