والخبر القرآني كما تعلمون ليس المقصود منه فقط: الإثراء المعرفي، وإنما المقصود منه: التماس العبر والعظات حتى يستنير الإنسان في طريقه إلى ربه جل وعلا، فالحسد أحد ثلاثة أمراض هن أصول الخطايا، وقد حررنا هذا من قبل في لقاءات عدة.
قال العلماء: إن الكبر والحسد من أعظم أصول الخطايا، فالحسد شيء يدب في القلب، فيسود الإنسان نوع من التغير القلبي أولاً على نعمة يراها في غيره، وأعلى مراتب الحسد: ما يسمى عند بعض أهل العلم: بالحسد المقدر -وكل شيء بقدر الله - لكن يقصدون: أن بعض الناس يبلغ حسده أنه إذا رأى أحداً من الناس خاف أن تصل إليه النعمة قبل أن تصله فيحسده قبل أن تصل إليه النعمة وهذه -والعياذ بالله- منزلة مخيفة.
وبعض الناس -وهذا أقل درجة- يحسد إذا وقعت النعمة لغيره، وهو الذي ذكره الله جل وعلا عن حسد قابيل لأخيه هابيل، وهذا موجود في الحياة العامة بعيداً عن الكلام الفلسفي والأمور التنظيرية: فبعض الناس يحسد غيره، ولو كان هذا أقل من قدرة ومالاً، لكنه يجد فيه نوعاً من القبول، أو أحياناً يكون له شهرة، والشهرة هي القبول، وهناك التفاف من الناس حوله، فهو يقول في نفسه: أنا أملك علماً إذا كان في العلم، أو مالاً إذا كان في المال، أو جاهاً إذا كان في الجاه، وهذا له صيت عند الناس، وليس لي صيت، وهذا قياس خاطئ؛ لأن الله تبارك وتعالى أعلم بابتلاء عباده، فقد يكون ذلك الغير ليس أقرب من الله منك، لكن الله يبتليك ويبتليه، فلا تقع في المزلق، ويقع منك حسد لأخيك، مثلاً: يدخل أحد الناس إلى تسجيلات إسلامية، فيسمع شريطاً لزيد أو عمرو من الدعاة، فيقول: أنا أفضل منه، أنا أعلم منه، فعلام يقبل الناس عليه؟ قد تكون أعلم منه وأتقى، لكن هذا ليس مبرراً أن تحسده على التفاف الناس حوله، وهذا المثال حاصل في مجتمع الدعاة، وهو حاصل أيضاً عند النساء، فهذا نوع من الحسد الذي يقع عند الناس، ولابد أن الإسلام وضع طرائق لمعالجة هذه الظاهرة: أولها: التحذير من الحسد، فقد جعله الله نعتاً للكفار:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ}[البقرة:١٠٩]، فقال:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء:٥٤]، وقال صلى الله عليه وسلم:(لا تحاسدوا)، وقال:(إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، إلى غير ذلك من الآثار الصحيحة من الكتاب والسنة في هذا الباب.
كذلك الإسلام يربي في أصحابه أن يطلبوا الفضل من الله، فلا يكن همنا لماذا أنعم على زيد؟ فمن حق كل إنسان أن يعطى نعمة، وكون الإنسان يطلب النعمة هذا أمر محبوب، لكن ليس الطريق إلى نيل النعم بأن تطلب من الله جل وعلا أن يزيلها من غيرك، أو أن تسعى في ذلك، ثم إن الإنسان بعد ذلك إذا وقع في هذا الداء -عياذاً بالله- يبدأ الصراع النفسي داخله، ويحاول قدر الإمكان أن يقوض بنيان أخيه، والله يقول في كلمة فصل:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا}[فاطر:٢].
بل إن الإنسان إذا أكثر من الحديث عمن يحسده يكون ذلك سبباً في علو ذلك المحسود، وعلو مرتبته، وقد قيل: اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله المقصود من هذا كله: أن الحسد قد يؤدي إلى مزالق أعظم كالقتل والبغي وغيره، وقد لا يصل في مجتمع الناس اليوم إلى القتل، لكن قد يقع الإنسان في مزالق لسانية تهوي به في النار سبعين خريفاً، فيشيع عبارات يعلم أنها غير صحيحة عن أخيه؛ تشيعها امرأة عن أختها، أو يلمز الرجل أخاه في مجلس، أو يحمل قولاً له على أسوأ محامله، وكل ذلك ربما يصنع أحياناً باسم الدين، وباسم إنكار المنكر، وهو في الحقيقة إنما يحقق رغبة نفسية مكنونة في قلبه ناجمة عن حسده لذلك الشخص عياذاً بالله من هذا كله.