[أسباب إدراك الإنسان لصفة الوفاء]
الملقي: هل الوفاء صفة جبلية تطبع عليها النفس البشرية، أم أنها صفة مكتسبة، إذا كانت صفة مكتسبة فما هي الأسباب التي تكتسب بها؟ الشيخ: يجتمع فيها الأمران: جبلية ومكتسبة فتكون نبتة ربانية مغروسة في الأسرة التي ينتمي إليها الرجل والديار التي ينشأ فيها، ثم تكتسب من خلال التربية ومن خلال التجارب والتعلم.
أما الأسباب فقد نسميها أسباباً أو فلنقل: مدركات أو نقول: ثمة أشياء حول الإنسان لابد أن يحتاط لها، فإذا عرفها حقق خلق الوفاء.
ينبغي أن يعلم أولاً أن الله جل وعلا يحب معالي الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فلما قدم صلى الله عليه وسلم كان للعرب خلق كريم وخلق ذميم، فالخلق الكريم لم يزحه النبي عليه الصلاة والسلام.
والله جل وعلا يقول في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢]، فعبارة (أولو الفضل) تبين أن هناك قوماً لهم مزايا وعطايا وقوماً ذوي خلق نبيل شريف وموقف كريم.
هذه النصوص الشرعية تبين لنا بجلاء أن الله تبارك وتعالى يحب معالي الأمور ما الوفاء؟ أحد أعظم معالي الأمور، فإذا أدرك الإنسان هذا أصبح في طريقه لبناء نفسه لابد أن ينطلق من أصل شرعي، فالأفعال أو الصفات أو الخصائص أو النعوت التي يحبها الله جل وعلا ينبغي للمرء أن يتحلى بها.
فإذا كان الإنسان رفيعاً شريفاً يحب تلك الأمور -وهي تحتاج بالطبع إلى تضحيات- يهون عليه الأمر أن الله جل وعلا يحبها، والرب يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:٩٢]، والعلماء يقولون: من صبر على ما يكره وأنفق مما يحب نال البر، ولا ريب أن الوفاء من أعظم خصائص البر؛ هذه الأولى.
الثانية: الإنسان ينبغي أن يعلم أن الأيام دول.
قد يقال: ما علاقة الوفاء بأن الأيام دول؟
و
الجواب
أن الإنسان قد يكون وفياً لمن تغير عليه الأمر.
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا فلو خلج الكرام إذاً خلجنا ولو بقي الملوك إذاً بقينا فالمقصود أن الإنسان يعلم أن الأيام دول، فمثلاً: الإمام عبد الرحمن الفيصل آل سعود رحمه الله نزح إلى الكويت بعد أن سلب الملك، والملك عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه مؤسس هذه البلاد انطلق من الكويت، وأميرها آنذاك هو الذي آوى الأسرة، فانطلق منها الملك عبد العزيز وفتح الله على يديه مدائن ووحد الله على يديه بلاداً وجمع الله على يديه الشمل وأقام هذه البلاد المباركة المشهودة.
ثم دارت الأيام فتعرضت الكويت لما تعرضت مما لا يمكن أن يغفل عنه أحد وهو غزو العراق.
ثم قدر أن يقوم الملك فهد رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة برد الجميل لأهل الكويت فتؤوى الأسرة الحاكمة من الكويت في ديارنا، ويدخل أهلها شرفاء أحراراً إلى ديارنا، ثم عادوا ولله الحمد والمنة ومن الله عليهم بما من عليهم، والمقصود من هذا أن الأيام دول.
ومن عرف أن الأيام دول يحاول أن يصطنع المعروف، ثم إنه يبعد تماماً عن الشماتة، لماذا؟ لأنها سنة الله في خلقه، فالدنيا ككرسي الحلاق هذا يصعد وهذا يهبط، وأنت ترى هذا عياناً في سوق الأسهم ففي أيام كان هناك ناس أمسوا ولم يصبحوا.
ولا يخفى أمر البرامكة وما كان لهم من علو كعب في دولة بني العباس؛ لكن ينبغي أن يعلم أن الأيام دول وأن الله يحب معالي الأمور.
الأمر الثالث: أن الحياة مراحل، وعلاقة (الحياة مراحل) بالوفاء أنه لا يوجد عالم شهير عرفه الناس بين عشية وضحاها، ولا يوجد ملك مشهور بالقوة السياسية والعقلية وصل إلى الملك بين عشية وضحاها، ولا يوجد غني أغناه الله بين عشية وضحاها، لكن القضية أن الإنسان يمر في حياته بمراحل، وخلال مراحل حياتنا يكون هناك أناس صفوة.
الشيخ: إذا خذلنا الغير يكون لهم دعم؛ فالأم تعكف على ولدها وتربيه وتتعاهده وترفض أن تتزوج من أجله، وإخوة يساعدون أخاهم يظنون به القدرة على العلم، أصحاب يعينون صديقهم على نوائب الدهر حتى يصل، طلاب يعينون شيخهم حتى يبلغ.
وهكذا في سائر مجالات الحياة، فالحياة مراحل، فإذا وصل الإنسان إلى الغاية يجب عليه أن يبر من سبقت له عليه النعمة واليد كما سيأتي تحريره.
وبعد العلم بأن الحياة مراحل وطن النفس على قضية.
كذلك ينبغي أن يعلم أن الإحسان مما يسترق به رقاب الأحرار، يقول المتنبي: ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقد جاء في السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه في صلح الحديبية كانت قريش تبعث الرجال ليتناوبوا في المباحثات مع النبي عليه الصلاة والسلام.
أحد الرجال الذي قدموا كان بذيء اللسان، فلما وقف عند النبي عليه الصلاة والسلام كأنه أراد أن يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفاً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحى يد الرجل بكعب سيفه، فلما نحى الرجل سأل هذا الرجل وهو بذيء اللسان قال: من أنت؟ يقول للمغيرة، قال: أنا المغيرة، قال: لولا أن يداً لك عندي لأجبتك، فعبر باليد عن النعمة.
ومن باب الفوائد أن العرب تعبر باللسان عن الثناء، ومنه قول الله جل وعلا: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤]، وتعبر بالقدم عن السعي: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:٢]، أي: سعياً وعملاً صالحاً، وتكني باليد عن النعمة: ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا.
فالمقصود: كما قال الأول: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان الإنسان لا يسترق قلوب الأحرار بأعظم من اليد؛ لأن الحر يحفظ اليد، فحتى لو تبدلت الأيام وتغيرت السنون فأظهره الله أو غيره يستحي، ومن هذا جاء وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لـ مطعم بن عدي، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة بجوار مطعم بن عدي بعد عودته من الطائف، وكان المطعم كافراً ومات على كفر.
ففي غزوة بدر أظهر الله نبيه فنظر عليه الصلاة والسلام للأسرى والقتلى فقال عليه الصلاة والسلام وهو المشرع للأمة وهو القدوة: (لو أن المطعم بن عدي كان حياً فكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)، لماذا ذكر المطعم دون سائر قريش؟ لا لقرابة وإنما ليد كانت لـ مطعم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت وفاءً له، فهذا يدل على ما حررناه من قبل.
والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أحسن يستجلب رحمة الله، وفي نفس الوقت يسترق قلوب الأحرار، يقولون: إن رجلاً من الخوارج خرج على الحجاج بن يوسف لظلمه، فظفر به الحجاج وعرف فيه الشرف فأعتقه ولم يقتله، فلما تركه ومضت الأيام ذهب الخارجي إلى قومه، فقالوا: هلم بنا نحارب هذا الخبيث مرة أخرى، فقال: هيهات، هذا لا يمكن أن يقع، وكما قيل: أسر يداً معتقها، وملك رقبة مطلقها.
المقصود: أنه لما من عليه الحجاج وأعتقه جعل مانعاً له في حرب الحجاج مرة أخرى.
والأنفس الأبية تعرف معنى الإحسان، ولا يمكن أن يكون الوفاء إلا في أقوام شرفاء عظماء أجلاء، وإن كان ذلك أمراً نسبياً يتفاوت الناس فيه كسائر الأمور؛ لكن المقصود أن هذه الخمس هي أعظم المدركات الذي يحتاجها المرء في الوصول إلى الوفاء.