[التعليق على حديث: (أنا سيد ولد آدم)]
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تناولنا بعض الآيات القرآنية، وبينا ما فيها من الأحكام والآداب والمعاني السامية التي يكون فيها الصلاح في الدارين، وفي هذه المادة سنعرض شيئاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكلامه جامع للخير فما من خير إلا وبين مناره وسبله، وما من شر إلا وأوصد أبوابه وسبله، وقد كان صلى الله عليه وسلم فصيح المنطق، سلسل الأسلوب، رائع الحكمة، قوي الحجة، بليغ التأثير في النفوس، يحس المرء لكلامه حلاوة، ويستشعر اللذة الفنية التي تهز النفوس، وتثير الأحاسيس، وتأخذ بمجامع القلوب.
فإذا تكلم خشعت القلوب من جلال العظة، وإذا خطب انقطعت الشبه لبلاغة الحجة، وامتلأت النفوس اقتناعاً بحقيقة كلامه، ورضاً برأيه، وامتثالاً لأمره، ويكفينا في هذا قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤].
صلى عليك الله يا علم الهدى واستبشرت بقدومك الأيام هتفت لك الأرواح من أشواقها وازينت بحديثك الأقلام وسنختار جملة من الأحاديث ويعلق عليها ضيفنا بأسلوبه الماتع، نسأل الله عز وجل أن يسدده.
الشيخ: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ذكر فيما مضى أن هارون الرشيد صحب معه في إحدى رحلاته إلى بلاد فارس محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، وصحب معه الكسائي رحمة الله تعالى عليهما، وقدر لهما أن يموتا في يوم واحد في رنبويه، فدفنهما الرشيد، ولما دفنهما قال: دفنت اليوم في رنبويه، ثم سكت ولم أكمل، وقلت: إنني سأقول ما بعد هذه العبارة في آخر المقام، ولا أدري هل قلت: إن شاء الله أم لم أقل، فإن كنت لم أتمكن من الإجابة وانشغلت بغيرها فأقول: قال هارون -رحمة الله تعالى عليه-: دفنت اليوم الفقه والنحو في رنبويه.
يقصد: أن الفقه كله كتبه إمامه آنذاك محمد بن الحسن، ويقصد أن الكسائي -رحمة الله تعالى عليه- كان إمام النحاة في عصره.
المقدم: نعود إلى موضوعنا الأصلي مبتدئين بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)، وهو في صحيح مسلم، وهذا الحديث معدود في مناقبه صلى الله عليه وسلم.
نبدأ يا شيخ صالح مع أول عبارة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، فنبين المراد في لغة العرب بكلمة السيد، وأيضاً الحكمة من إضافتها إلى يوم القيامة.
الشيخ: لقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من الله جل وعلا عطايا ومزايا في الدنيا والآخرة، فتارة يذكر ما من الله به عليه في الدنيا، وتارة ما من الله عليه به في الآخرة، وتارة يذكرهما سوياً، فهنا يتكلم صلى الله عليه وسلم عما أكرمه الله به في الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم).
والسيد في اللغة: هو الذي يفزع إليه في الشدائد، وهو أمر تعرفه العرب، ذلك أن الناس لابد لهم من رءوس، فإذا اضطربت كلمتهم، واقتحمتهم لجج، وفجأتهم كوارث، وحلت بهم الدواهي لجأوا إلى سادتهم، وعرف عند العرب في الجاهلية وفي الإسلام وفي كل الأمم سادة، فمثلاً: في الإسلام كان الأحنف بن قيس سيد بني تميم، وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (قوموا لسيدكم) أي: لـ سعد بن معاذ، وسأل الأنصار يوماً: (من سيدكم؟ قالوا: جد بن قيس، على بخل فيه).
وكلمة السيد تحكمها الأعراف والتقاليد، وحاجة الناس في كل عصر ومصر، فالسيد هو الذي يفزع إليه في الشدائد.
وأما لماذا أضافها النبي صلى الله عليه وسلم وقيدها بقوله: يوم القيامة؛ لأن السيادة في الدنيا هناك من نازعه عليها صلى الله عليه وسلم ولو ادعاءً، كرؤساء أهل الإشراك وأئمة الكفر، وأهل الثراء في زمانه، فكلهم كان ينظر إليه أنه سيد، لكن يوم القيامة فهو عليه الصلاة والسلام أول من يؤذن له، وهو أول من يتكلم، ولواء الحمد في يده، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم) هذا تعميم؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم، وكلمة: أولاد يدخل فيها الذكور ذكور والإناث، ويدخل فيها كل أحد، حتى آدم نفسه، ودخول آدم عليه السلام جاء في أحاديث أخر، وكذا دخول إبراهيم عليه السلام جاء في أحاديث أخر مفصلة، فهو صلى الله عليه وسلم سيد الناس في الدنيا والآخرة، لكنه قيد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، فيوم القيامة أفادت أن ذلك اليوم لا أحد ينازعه في السيادة صلوات الله وسلامه عليه.