للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تجلت في هذه الآيات صورة من صور الحوار الهادف المقنع، وذلك أن صاحب الجنتين افتخر على صاحبه بأنه أكثر خدماً وحشماً وولداً، ولذا دخل جنته وهو ظالم لنفسه، أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد، قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً، وذلك اغتراراً منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال: وما أظن الساعة قائمة، أي كائنة، ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً: أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا، لأني محظيّ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، حينها قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالله خلقتك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ .. } [البقرة:٢٨]، أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه معدوماً ثم وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات، لأنه بمثابته، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ولذا قال: (لكنا هو الله ربي) (١).

ومن بيان القرآن وهدايته، حكاية المجادلات وإقامة الحجج والبراهين الساطعة، فإذا تأملت القرآن رأيته مملوء من جدال أهل الباطل وحجاجهم بأحسن طريق، وأوضح برهان، وأقوم حجة، وأبين دليل، ورأيت معارضته لشبه أهل الباطل، وذكرها ونقضها بما يشفي ويكفي، وهو دافع لأهل الباطل (٢).


(١) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ت: سامي سلامة (٥/ ١٥٧).
(٢) حمد العثمان: أصول الجدل و المناظرة، مكتبة ابن القيم - الكويت، ط ١ ١٤٢٢ هـ، ص (٣٧).

<<  <   >  >>