للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، أن الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولا حساب نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر، فالحياة إذن: حياة وموت في هذه الدنيا، وهب استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد إنسان ثم يموت ليحل محله إنسان آخر، وهكذا بلا انتهاء (١).

ومن المعلوم أن الباعث والمحرك للعبادة هو إيمان المرء بيوم آخر يحاسب ويجازي على أعماله، وهنا يرد هذا التساؤل وهو: إذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا عقاب ولا حساب، ولا يقيمون للبعث وزْناً ولا يعرفون له معنى، فلم يعيدون الأصنام ويقدمون لها القرابين والنذور!

والجواب يظهر جلياً في قوله جل وعلا: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠)} [البقرة:٢٠٠].

قال الإمام القرطبي:" كانت العرب في الجاهلية تدعوا في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها، ولا يؤمنون بها" (٢).

فالعقلية الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للأشياء، ولا تتصور العاقبة السيئة إلا تصوراً مادياً، وهذا يفسر لنا تقربهم لآلهتهم المزعومة، إنما هي لمصالح ومنافع دنيوية، وخوفهم منها، لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشدة في هذه الدنيا (٣).


(١) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط ٢ - ١٣٨٤ هـ، (٢/ ٤٣٢).
(٢) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ت: سامي سلامة (٧/ ١٩٧).
(٣)

<<  <   >  >>