للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أوجد الإيمان بالآخرة، نماذج حية شاهدة على أثره في الخائفين الوجلين الراجين المحبين، فكم من خائف أقلقه ذكر الآخرة، وكم من راج يرجو مكرمات الرب في الآخرة، وكم من محب زادته آثار الآخرة شوقاً ومحبة لها، فلا عجب أن ترى رجالاً ونساءً على مدى الحياة، سطر التاريخ سيرهم، وخط الزمان أخبارهم، فتعلقت في قلوب الأجيال مآثرهم، لا تقلب طرفك في مجال خير إلا وجدتهم، فهم السابقون للخيرات، الراعون للحرمات.

ولذا فلا عجب أن تقرأ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرّ يوماً بدار إنسان وهو يصلى ويقرأ سورة (والطور) فوقف يستمع فلما بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)} [الطور:٧ - ٨] نزل عن حماره، واستند إلى حائط، ومكث زماناً، ورجع إلى منزله فمرض شهراً يعوده الناس، ولا يدرون ما مرضه (١).

إن المرض الذي أمرض أمير المؤمنين، هو قلق يسري في قلوب المؤمنين حين تمر سحائب الآخرة إلى أسماعهم، فنستقر في وجدانهم وصدورهم فيستولي على جوارحهم، فلا يطيقون له دفعاً، ولا يجدون عنه محيصاً، إنه أثر الإيمان باليوم الآخر في قلوب المؤمنين الموقنين الصادقين.

نعم، لقد "أزعج ذكر القيامة قلوب الخائفين، وقلقل خوف العقاب أفئدة العارفين" (٢)، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما، عن الخائفين فقال: "قلوبهم بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله موقفنا" (٣).


(١) الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (٤/ ١٨٤).
(٢) ابن الجوزي: التبصرة، دار الكتب العلمية - بيروت ن ط ١ ١٤٠٦ هـ، ص (٢١٣).
(٣) الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (٤/ ١٨٤).

<<  <   >  >>