للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال آخر: لتمر على القلب أوقات، يرقص فيها طرباً، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة، إلا نعيم الإيمان والمعرفة (١).

وقد ذكر الإمام ابن القيم، من حال شيخه الإمام ابن تيمية في هذا الشأن أمراً عجباً، فقال:" وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها، لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فيه معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً، ما عدل عندي شكره هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣)} [الحديد:١٣]. وعلم الله ما رأيت أحداً، أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاق الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك، من أطيب الناس عيشاَ، وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها، ما استفرغ قواهم لطبها، والمسابقة إليها " (٢).


(١) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (٢٨/ ٣١)، ابن القيم: مدارج السالكين: (٢/ ٦٧ - ٣/ ٢٤٣).
(٢) ابن القيم: الوابل الصيب، دار الحديث - القاهرة، ط ٣ ١٩٩٩ م، ص (٤٨).

<<  <   >  >>