للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَادِيانِ مِنْ ذَهَب لَتَمَنّى ثَالِثَا" (١). فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه، ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسدَّ فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربّها ومعبودها، فتعرفه وتقصده دون سواه، عند ذلك يجد القلب مطلوبه، وتحصل النفس على مرادها، فيكون الإطمئنان والراحة والهناء، وفي ذلك يقول ربُّ العزة: {أَلاَ بذِكر الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} (٢)، فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الربّ المعبود معرفة وقصدا وتوجها.

والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية، تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كلّه والفضل كلّه حازته الذات الإلهية، يقول ابن خلدون في هذا: "وتطلب غريزة العقل مقتضى طبعها: وهو المعرفة والعلم، فتحرك الفكر إلى تحصيله، وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، إذ لا ترى موجودا أكمل منه، فلا تزال تتطلع إلى جانبه بتصورات وأفكار تتعاقب عليها، تُلحم وتسدي، وتعيد وتبدي، وحركاتها في جميع هذه الأمور متواترة مترادفة، لا تفتر طرفة عين، ولا يلحقها من الكسل والملال ما يلحق الجوارح والأعضاء، وهي متنقلة دائما أسرع من إيماض البرق وحركة الدبال بالريح" (٣).

والسبب الذي يجعل كثيرا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمّة، فكلّما صحّ العلم، وانتفى الجهل، وصحت العزيمة، وعظمت الهمّة؛ طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض النّاس همّه لقمة يسدّ بها جوعته، وشربة روية تذهيب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهب ذمّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء: (٤) (٥)


(١) متفق عليه (مشكاة المصابيح ٢/ ٦٧٢).
(٢) سورة الرعد / ٢٨.
(٣) شفاء السائل (٢٣).
(٤) هو حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي القحطاني، فارس شاعر جاهلي، يضرب المثل بجوده، وفاته سنة (٤٦) قبل الهجرة.
راجع: (الأعلام) (٢/ ١٥١).
(٥) عيون الأخبار (١/ ٢٢٣).

<<  <   >  >>