موسى، ومثل هذا يحدث لمن فجأه أمر شديد من حب أو خوف أو رجاء، فإن القلب يبقى منصرفا عن كلّ شيء إلاّ عما قد أحبّه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغرافه في ذلك لا يشعر بغيره.
وعندما يقوى هذا الحال عند السالكين يغيب الواحد منهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبّدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وفي مثل هذه الحال يضعف المحبّ ويضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه.
وهذا الموضع زلّ فيه أقوام، وأكابر الأولياء كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يقعوا في مثل هذا، فضلا عمّن هم فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة.
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الِإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو فناء أو منكر أو وَلَة أو جنون، وإنَّما كان مبادىء هذه الأمور في التابعين من عبّاد البصرة، فإنّه كان فيهم من يُغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت.
وصار في بعض العبّاد والنساك بعد ذلك من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط منه.
وهذه الأحوال ليست كمالا بحال من الأحوال، فالكمال هو قصد الله وحده دون سواه، مع بقاء العلم والتمييز، بحيث يعرف القاصد الأمور على ما هي عليه، والكمال لا يقتضي أن يغيب العبد عن مشاهدة المخلوقات، بل يشهدها قائمة بأمر الله، مدبَّرة بمشيئته مستجيبة له قانتة له، فيكون للعباد فيها تبصرة وذكرى، ويكون