للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته، وإن اشترى أن يقارب لمكان دينه. فشاع ذلك الكلام، حتى بلغ الملك، فأعجب به، فركب إليه ليسلِّم عليه، ولينظر إليه، فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك، ليسلّم عليك، فقال: وما يصنع؟ قال: للكلام الذي وعظت به، فسأل غلامه هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به، فأمر به، فأتي على مسح، فوضع بين يديه، فأخذ يأكل منه، وكان يصوم النهار، ولا يفطر، فوقف عليه الملك، فسلَّم عليه، فأجابه إجابة ضعيفة، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له هو هذا، قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم، قال: فما عند هذا من خير، فأدبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به" (١).

وفي رواية أخرى عن وهب: "أنّه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه، فجعل يضع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت، فيأكل أكلا عنيفا، فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس. فردَّ الملك عنان دابته، وقال: ما في هذا من خير. فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني، وهو لائم لي" (٢).

وذكر ابن الجوزي قصة قريبة الشبه بهذه، فقد ذكر أنَّ الوليد بن عبد الملك (٣) أراد أن يولي يزيد بن مرثد (٤)، فبلغ ذلك يزيد فما كان من يزيد إلاّ أن تظاهر بالجنون، فقد لبس فروة، فجعل الجلد على ظهره، والصوف خارجا، وأخذ بيده


(١) تلبيس إبليس ص ١٧١، ١٧٢.
(٢) تلبيس إبليس ص ١٧١، ١٧٢.
وهذه القصة من الإسرائيليات التي لا تكذب ولا تصدق، وقوله في القصة أن يقارب مأخوذ من قاربه: أي حادثه بكلام حسن، وقارب في الأمر ترك الغلو به. والمسح: اللباس أو الكساء من الشعر، والعنان: سير اللجام. والمنهج الصواب -إن شاء الله تعالى- أن من ظهر عمله ولم يقصد إظهاره ومدحه للناس بذلك لا ينبغي له أن يستاء، فتلك بشرى عاجلة فليفرح بفضل الله -عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن". أخرجه مسلم.
(٣) هو الوليد بن عبد الملك من ملوك الدولة الأموية في الشام، وسع رقعة الدولة الإسلامية، وأجرى إصلاحات هامة في الدولة، توفي في الشام عام (٩٦ هـ). راجع: (شذرات الذهب ١/ ١١١)، (الأعلام ١/ ١١١).
(٤) هو يزيد بن مرثد الهمداني أبو عثمان الدمشقي، روى الحديث عن شداد بن أوس، وعنه خالد بن معدان وعطاء. راجع: (تهذيب التهذيب ١/ ٣٥٨)، (خلاصة تذهيب الكمال ٣/ ١٧٦).

<<  <   >  >>