للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العرب" فأجابت، وانصرفت إلى قومها؛ فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته١. ولم تدع قرآنًا، وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة.

وفي رواية صاحب الأغاني٢: أنه كان فيما ادعت، أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشًا قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة، وقد مرت آنفًا.

ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها، وما كانت نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!.

٥- والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن، فلفق النضر هذا شيئًا من أخبار الفرس وملوك العجم، ومخرق بذلك؛ لأنه جاء بأخبار يجهلها العرب. ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل، لحماقته فيما زعم، وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه!

٦- وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور: زعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره٣.

وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب "الدرة اليتيمة"٤.


١ روى الطبري أن قومها قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا. قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق، فرجعت فقالت له: أصدقني صداقًا. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي. قال: علي به! فجاء، وقال: ناد في أصحابك: إن مسيلمة بن حبيب رسول الله. وقد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر. وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما.
وفي رواية "الأغاني" أنه -أخزاه الله- وضع عنهم صلاة العصر وحدها، وأن عامة بني تميم لا يصلونها ويقولون: هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده. فإن صحت هذه الكلمة فليس أبلغ منها في الكشف عن معنى العصبية التي أومأنا إليها في هذا الفصل وقلنا إنها الأصل في مشايعة هؤلاء المتنبئين.
٢ لم يترجم صاحب الأغاني لسجاح، ولكنا رأينا هذه الرواية في ترجمة الأغلب العجلي.
٣ يتناقل المصنفون في كتب البلاغة من المتأخرين بعد القرن الخامس، عبارة غفل عنها من قبلهم ... وهي أن ابن المقفع لما عارض القرآن ووصل إلى قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال: هذا ما يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، وترك المعارضة ومزق ما كان اختلفه. وهذه الآية في سورة هود، فكأن ابن المقفع عارض السور الطوال حتى انتهى إليها: وهو شيء لم يزعمه الملحدة أنفسهم، إذ قالوا: إن المعارضة كانت بالدرة اليتيمة. وهي أوراق قليلة.
ولهذا رأينا أهل التدقيق إذا ساقوا هذا الخبر في كتبهم قالوا: إن ابن المقفع سمع صبيا يقرأ الآية فترك المعارضة؛ وذهب عن هؤلاء المدققين أن مثل ذلك البليغ لا يأخذ في معارضة القرآن إلا وقد قرأه وتأمله ومر بهذه الآية فيه ووقف عندها متحيرًا، فليس يحتاج إلى صبي يسمعها منه ليترك ما اتخذ فيه إن كان إبطال المعارضة موقوفًا على سماع الآية.
٤ طبع هذا الكتاب مرارًا، وهو من الرسائل الممتعة، بعد طبقة من طبقات البلاغة العربية، ولكنه في المعارضة ليس هناك، لا قصدًا ولا مقاربة، ونحن لا نرى فيه شيئًا لا يمكن أن يؤتى بأحسن منه وما كل ممتع ممتنع. وقال الباقلاني: إنه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، وهذا هو الرأي: فإن ابن المقفع لم يكن إلا مترجمًا. وكان ينحط إذا كتب ويعلو إذا ترجم؛ لأن له في الأولى عقله وفي الثانية كل العقول ... وفي اليتيمة عبارات وأساليب مسروقة من كلام الإمام علي.

<<  <  ج: ص:  >  >>