للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب، وإذا قال هؤلاء إن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته، وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته، وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر، قال أولئك: بل عارض ومزق واستحيا لنفسه!

أما نحن فنقول: إن الروايتين مكذوبتان جميعًا، وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء من الأشياء إلا لأنه من أبلغ الناس. وإذا قيل لك إن فلانًا يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه، فاعلم أن فلانًا هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين: إما جاهل يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس؛ ولن يكون "فلان" ثالث ثلاثة!

وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس؛ لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده، وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه؛ ثم كان ابن المقفع متهمًا عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة.

ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب، وكان متهمًا بها أو كان له عرق في المجوسية، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة: لا لأنه زنديق، ولكن لأنه بليغ يصلح دليلًا للزنادقة١.

وزعم هؤلاء الملحدة أيضًا أن حكم قابوس بن وشمكير٢ وقصصه، هي من بعض المعارضة للقرآن؛ فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله؛ وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا؟ ومثل قولهم: إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها٣.


١ من أعجب ما رأيناه: أن بعضهم اتهم ابن سينا بمعارضة القرآن لأنه زنديق، وأن ابن سينا وضع رسالة في دفع هذا الافتراء، قلنا: وأين ابن سينا من طور سينا؟ هذا رجل وهذا جبل. ولكنها كانت عصور الجدل والمكابرة!.
٢ وهو شمس المعالي قابوس بن وشمكير المتوفى سنة ٤٠٣هـ. من ملوك الديلم على جرجان وطبرستان، وكان أديبًا مترسلًا، بالغ في وصفه الثعالبي صاحب اليتيمة، وقد طبع بعض رسائله في كتاب اسمه "كمال البلاغة" وهو رجل مسلم قوي الإيمان وإنما كذبوا عليه. وبعض كلامه جيد وبعضه لا قيمة له.
٣ وإنا لنحسب هذا الزعم أصلًا فيما نراه في بعض كتب الأدب والبلاغة، من أن هذه القصائد كانت معلقة على الكعبة فأنزلها العرب لفصاحة القرآن، إلا معلقة امرئ القيس، فإن أخته أبت ذلك، فلما نزلت آية {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} قامت إلى الكعبة فأنزلت معلقة أخيها؛ وإلا فمن الذي يصدق مثل هذه الرواية الباطلة إلا إذا كان إلى زعم كزعم أولئك الملحدين؟

<<  <  ج: ص:  >  >>