للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٧- وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي١ وكان رجلًا غلبت عليه شقوة الكلام؛ فبسط لسانه في مناقضة الشريعة، وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها من قوله في كتاب "الفريد"٢: "إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي فلم تقدر على معارضته؛ فيقال لهم: أخبرونا: لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ ".

قلنا: فاعجب لهذا الجهل الذي يكون قياسًا من أقيسة العلم, واعجب "للكلام" الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب؛ ولما كان كذلك فأحدهما مثل الآخر؛ ولما كان أحدهما معجزًا فالثاني معجز لا محالة. وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني. وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت ... لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلًا من الحجة وبابًا من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط؛ وإلا فأين كتاب من كتاب٣؟ وأين وضع من وضع؟ وأين قوم من قوم؟ وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض ولاطرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا: إن كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟ ولو أن مثل هذه السخافة تسمى علمًا تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى باسمه، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة؛ لأن فيه قوة من قوى الخلق؛ ولأنك لا تجد سخيفًا من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون من ذلك علمًا -كابن الراوندي مثلًا- إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل إلهه هواه، أم جعل إلهه في فمه٤.


١ توفي سنة ٢٩٣هـ على رواية أبي الفداء، وفي كشف الظنون سنة ٣٠١هـ وفي وفيات ابن خلكان سنة ٣٥٠هـ، ولعل الأولى أقرب. وكان هذا الرجل من المعتزلة، ثم خالفهم فنبذوه واشتدوا عليه، فحمله الغيظ على أن مال إلى الرافضة. قالوا: لأنه لم يجد فرقة من فرق الأمة تقبله، ثم ألحد في دينه وجعل يصنف الكتب لليهود والنصارى وغيرهم في الطعن على الإسلام، وهلك في منزل رجل يهودي اسمه أبو عيسى الأهوازي، وكان يؤلف له الكتب.
٢ وفي تاريخ أبي الفداء "الفرند" وهو تصحيف، وهذا الكتاب وضعه ابن الراوندي في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ردوا عليه ونقضوه.
٣ كتاب إقليدس مثلًا في الهندسة، وهي علم فئة، بخلاف البيان الذي كان طبيعة في العرب لا في فئة منهم، فاختلفت جهة القياس.
٤ يجنح ابن الراوندي في طعنه إلى الأقيسة الفاسدة يغالط بها, وله من ذلك سخافات عجيبة، وقد طعن في كتاب "الزمردة" على نبوات الأنبياء جميعًا وله كتاب "نعت الحكمة" يعترض فيه على الله إذ كلف خلقه ما أمر به، فاعجب لهذا حقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>