للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كله على صدرها فجعل الجمر من الغضا، وهو شجر معروف يقال إن جمره أبقى الحمر وأحسنه، ثم جعل لهذا الجمر كفافًا من أصول الشجر، وهي الأجزال، حتى تزيد في وهجه وتوقده، ثم لما كان قد تلك الحسناء لا بد أن يكون ممشوقًا فقد جعل هذه النار من صدرها على مثل اليفاع من الأرض، لتكون الريح أشد تمكنًا منها، ثم جعلها في منازل راجعين من الأسفار فهي توقد لهم ويحتفل فيها على ما هو معروف من عوائدهم. فليت شعري هل يبقى بعد هذا الحريق من لبات الحسناء ما يناط به الحلى، فضلًا عما يظهر حسنه وتوقده؟.

وأعجب شيء في أوصاف امرئ القيس وهو ابن ملك، أنه يصف الجميلة بحسن الغذاء، يصف سنا البرق بمصابيح راهب أهان في ذبالها السليط، وهو الزيت، فلم يعزه لكثرته عنده ... وهكذا مما لا يؤخذ منه إلا أنه كان صعلوكًا يصف للصعاليك، وهو دليل أيضًا على ما قدمناه من أن شعره صورة غير مرتبة من حياته.

ومن بدائع التشبيه التي اتفقت له قوله:

سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال

المراد بحباب الماء: إما طرائقه، أو فقاقيعه؛ فمن ذهب إن الحباب الطرائق فإنما أراد: أني جئت أتدفع إليها كما يتدفع الماء شيئًا بعد شيء حتى صرت إلى ما أريد، ومن ذهب إلى أن الحباب الفقاقيع، فإنه أراد خفة الوطء وإخفاء الحركة؛ وكلا المعنيين غاية في تصوير تلك الحال، مع اللطف والرقة وبراعة التشبيه؛ وقد تقدم أنه من مخترعاته التي سلمها له الشعراء، وهو أحد المعاني التي تلم بها خواطرهم فتختلس منه ما تختلس الألحاظ، وكثيرون قد ألموا به، ولكن الغاية في ذلك قول ابن شهيد الأندلسي "ص١٤٣ ج٢: نفح الطيب":

ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس

دنوت إليه على قربه ... دنو رفيق درى ما التمس

أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس

ومن هذه القصيدة قوله يذكر العقاب حين شبه فرسه بها، وهو من المخترعات أيضًا في معناه، وأسلوبه طريقة من طرائقه المبتكرة:

كأن قلوب الطير رطبا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

العناب ثمر أحمر، والحشف ما يبس من الثمر ولم يكن له طعم ولا نوى. وقد أجمع الرواة على أن هذا أحسن بيت جاء في تشبيه شيئين بشيئين في حالتين مختلفين. وقتديره: كأن قلوب الطير رطبًا العناب ويابسًا الحشف البالي؛ فشبه الطريء من القلوب بالعناب، والعتيق بالحشف؛ وخص قلوب الطير؛ لأن فرخ العقاب فيما يأكل لحم الطائر ما خلا قلبه، فلذلك كثرت قلوب الطير عندها، وقيل: غير ذلك. والتشبيه كما ترى ليس بشيء، غير أن الطريقة التي بها هي دليل من الأدلة على فضل صاحبها، ولم يحفظ قبل امرئ [القيس] بيت على هذا النمط، فهو أول من جاء بذلك من

<<  <  ج: ص:  >  >>