الفينة، فهو إذا أصاب صفتها في أقوال الشعراء استدل عليها بطبعه وأمضى فيها اختياره ومن ههنا كان الاختيار على التحقيق من وفور العقل.
وأول اختيار مدون عند العرب القصائد المعروفة "بالمعلقات" اختارها حماد الراوية المتوفى سنة ١٥٥هـ، ثم "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي المتوفى سنة ١٧٠هـ.
ثم "المفضليات" للمفضل الضبي وهي مشهورة، قال أبو علي القالي في "أماليه": إن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، ثم قرئت على الأصمعي فصارت مائة وعشرين؛ وقال في أصحاب الأصمعي إنهم قرءوا عليه "المفضليات" ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره وضموه إلى "المفضليات" وسألوه عما فيه مما أشكل عليه من معانيه وغريبه، فكثرت جدا. "ص١٣١ ج٣: الأمالي". وكان المفضل يؤدب المهدي فتقدم إليه أبو جعفر المنصور أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين ويختاره لفتاه لكل شاعر أجود ما قال، فاختار هذه القصائد، وهي مشهورة، وقد طبع منها [كذا] قصيدة.
ثم اختار الأصمعي القصائد المعروفة بالأصمعيات، وكل هؤلاء لم يختاروا في كتبهم شيئًا للمولدين، حتى جاء هارون بن علي المنجم الذي أومأنا إليه في الفصل السابق ووضع كتاب "البارع في أخبار الشعراء المولدين"، وهو الذي ينقل عنه صاحب "الأغاني" كثيرًا ويشير إلى ذلك بقوله: نقلت من كتاب هارون بن علي، ونحو هذا اللفظ؛ قال ابن خلكان: وذكروا في أوله أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبله في هذا الفن، وأنه كان طويلًا فحذف منه أشياء فاقتصر على هذا القدر، ثم قال: إنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها. ا. هـ. وقد تابعه على ذلك من جاء بعده ممن صنفوا في الأخبار والمختارات كما مر في موضعه.
ومما ننبه عليه أن الرواة إذا توافى اثنان منهم على اختيار قصيدة واحدة، ذهبت مثلًا في الجودة كقصيدة.
...
بكرت سمية غدوة فتمنعي
فإن أبا عبيدة لم يجد في وصفها أبلغ من قوله: إنها من مختار الشعر. أصمعية مفضلية"ص٨٢ ج٣: الأغاني".
الحماسة:
ولكن الذي رزق حظ الشهرة في اختياره وجاء بما غطى على من سبقه، أبو تمام الطائي المتوفى سنة ٢٣١هـ فيما جمعه من كتاب "الحماسة" الشهير الذي قالوا إنه في اختياره أشعر منه في شعره، وتأويل ذلك ما قدمناه من معنى إصابة الاختيار؛ قالوا: وسبب جمعه أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه فأجازه، وعاد يريد العراق، فلما دخل همذان اغتم أبو الوفاء بن سلم فأنزله وأكرمه، وأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم قطع الطريق، فغم ذلك أبا تمام وسر أبا الوفاء، فأحضره خزانة