للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي «الخصائص»: «فإن كثيرًا من هذه اللغة وجدته مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا قضم في اليابس، وخضم في الرطب؛ وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صرصر البازي، فقطَّعوه؛ لما هناك من تقطيع صوته، وسموا الغراب غاق حكايةً لصوته، والبط بطًّا حكايةً لأصواتها، وقالوا «قَطَّ الشيء» إذ قطعه عرضًا، و «قَدَّه» إذا قطعه طولًا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وقالوا «مدَّ الحبل» و «متَّ إليه بقرابة» فجعلوا الدال - لأنها مجهورة - لما فيه علاج، وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه.» (١) ثم يقول في الفقرة التالية عليها: «نعم، وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبُعدها في الزمان عنا»، وهو شبيهٌ بقول أفلاطون في كراتيلوس: «إن العصور القديمة قد ألقت عليه حجابًا.»

وقد ابتدع بعض النحاة، مثل ابن جني وابن فارس، فكرة «الاشتقاق الكبير» زاعمين أن تقلبات الفعل الثلاثي تشير جميعًا إلى معنًى معين كيفما اختلف ترتيب أصواتها. وفي الخصائص: «وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنًى واحدًا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيءٌ من ذلك (عنه) رُد بلطف الصنعة والتأويل إليه.» (٢) وهكذا رد ابن جني أصل «الكلام» (مادة «كَلَمَ» وتقاليبها) إلى معنى القوة والشدة، وأصل «القول» (مادة «قَوَلَ» وتقاليبها) إلى معنى الإسراع والخفة والحركة، ومادة «جَبَرَ» إلى القوة والشدة، ومادة «قسو» إلى القوة والاجتماع، ومادة «سَلَمَ» إلى الإصحاب والملاينة، وهو لا يدَّعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، «بل لو صح من هذ النحو وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان ذلك غريبًا معجبًا، فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد؟» (٣)

وفي «باب في تصاقب (٤) الألفاظ لتصاقب المعاني» يعرض ابن جني لأمثلة على تقارب الألفاظ لتقارب معانيها: من ذلك: تَؤُزُّهم أزًّا، أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في


(١) الخصائص، ج ١، ص ٦٦ - ٦٧.
(٢) الخصائص، ج ٢، ص ١٣٦ - ١٤٠.
(٣) الخصائص، ج ٢، ١٤٠ - ١٤١.
(٤) أي تقارب وتدانٍ.

<<  <   >  >>