للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال خادمه المذكور: خدمته تسع سنين، فكان لا يمر عليه وقت من الليل أو النهار إلّا وهو معمور بأنواع القربات: إمّا بقراءة قرآن، أو قراءة، أو سمع الحديث، أو تملية، أو يشتغل بالعلم، أو يؤدب مريديه، أو يتوجه إلى الله سبحانه- عزّ وجلّ- بإحكام أحوال قربه، ومنازلات سرّه.

وشهدته يوما وقد دخل عليه شيخ أشعث أغبر، ما رأيته من قبل ولا من بعد، فجلس بين يدى الشيخ متأدّبا خاضعا، فأطرق الشيخ ساعة ثم نظر إلى الرجل، فخرّ مغشيّا عليه، فقال الشيخ: ارفعوه. فوضعناه فى بيت، فمكث فيه أربعة أشهر لا يتحرك ولا يفيق، فحالته كحالة الميت إلّا أنه يتنفس، ثم أتاه الشيخ ومسح بيده على صدره فأفاق، فسألته عن أمره، فقال: يا أبا العباس، كبر سنّى، وتتابعت مجاهداتى، وطالت سياحاتى، وما رأيت من أحوال هذا الشأن شيئا، فاستغثت إلى الله تعالى بسرّى، فنوديت: اذهب إلى سلطان هذا الوادى، فعنده ما تريد. فقلت: ومن هو؟ فقيل لى: هو الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق «١» ، فلما جلست بين يديه ونظر إلىّ قطعت نظرته حجبى، واخترقت فّى سرادقات الوصل، وطويت لى مسافات البعد، واختطفتنى عن جسمى وعالمى، وغيّبتنى عن الوجود وما فيه، وقمت على قدم الفناء والغيبة عن الأكوان فى مقام القرب، ونلت مطلوبى، ووصلت إلى محبوبى ببركة نظرته، فمرّ بى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا على هذا الحال فى مقامى ذلك، فنظر إلىّ وقال:

مروا من حال بين هذا وبين عقله أن يضع فيه تمكينا يقهر بقوته شيطان هذا الحال ليرجع إلى تمييزه فيقوم بأحكام الشرع.

وأسرع إلىّ الشيخ أبو عمرو، فوجدت عندى قوّة ملكت بها حالى، ورجعت إلى وجودى كما ترى. ثم ذهب فما رأيته بعد.