إذا كان كتاب (البدر المنير) للحافظ ابن الملقِّن امتاز بغزارة مادته، ووفرة مصادره، وكثرة فوائده، وسعة عباراته، فإن كتاب (التمييز) للحافظ ابن حجر امتاز بحسن الترتيب، وجودة التَّعبير، والصَّناعة الحديثية التي هي غاية في الدِّقة، ونهاية في التَّحقيق، فإنّ نَفَسَ المحدّث بادٍ عليه، وبراعَةَ النَّاقِد ظاهرةٌ فيه، فقد استطاع أن يعيد صياغة كتاب شيخه ابن الملقِّن في قالبٍ ينمّ عن عِلْمٍ وافرٍ، ودرايةٍ عميقةٍ بطريقة المحدِّثين، وإلمام بالغ بأساليبهم، فكانت الصِّناعة الحديثية عنده من أبرز من تَميَّز به "تمييزُه"، وتتمثل في جانبين هما:
الجانب الأوّلَ: جَودَةُ الصّياغة وحُسْنُ التَّرتيب:
قد يظنُّ النَّاظر أوَّلَ وهلةٍ في كتاب "التمييز" للحافظ ابن حجر، وفي أصلِه "البدر المنير" لشيخه الحافظ ابن الملقِّن أنهما كتابان لا صِلَةَ لأحدهما بالآخر، سوى ما يربط بينهما من اشتراك في تخريج كتاب واحد، وما يجمعهما من اتحاد المصادر والموارد الّتي تمدُّ كلَّ واحدٍ منهما بما يدوِّنه ويصوغه بطريقته، وُيرَتِّبُه ويُحرِّره بأسلوبه، وذلك بسبب ما امتاز به الحافظ ابن حجر رحمه لله من صياغةٍ بديعة لمادّة الأصل، وإعادةِ ترتيبها ترتيبًا أخرجها عن حدَّ التَّقليد والتبعية المطلقة إلى حَيِّز الإبداع والابتكار، ونظرةً واحدةً يسرِّحها النّاظر في أوّل حديثٍ في الكتابين كفيلة بإبراز هذه الخاصِّيَّةَ لديه بجلاء، ويحمله على التّسليم بهذه الحقيقة دون مِراء، وأنا ذاكرٌ بعضَ وجوهٍ تبرز فيها هذه الخاصِّيَّة بِوضوح،