عليها عديد من الإمپراطوريات، الواحدة تلو الأخرى، وكانت القوى الإمپراطورية الصاعدة تتحالف مع أعضاء الجماعات اليهودية نظرًا لعدم خشيتها منهم وتجندهم في صفوفها كمرتزقة أو مستوطنين أو حتى جواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي، مركز اهتمامهم الديني، تساعد على إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد، وعلى عزلتهم عن مجتمعاتهم، وعلى انغلاقهم على أنفسهم. وكان من الممكن أن تختفي هذه الجماعات تمامًا بسقوط الهيكل، ولكن الذي حدث أن فكرة الوطن الأصلي (الحنين إلى صهيون) حلت محل الوطن الأصلي ذاته، وهو ما أعطى أعضاء الجماعات اليهودية تَماسُكًا إثنيًا - ولكنه تَماسُك وهمي لأنه لم يَعُد هناك مركز قومي فعلي يحدد المعايير الدينية أو القومية. وبينما كانت الهويات اليهودية تتشكل في الواقع من خلال تشكيلات حضارية مختلفة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يدورون في إطار فكرة الهوية اليهودية الإثنية الدينية الواحدة.
وهذه التركيبة مناسبة إلى أقصى درجة للجماعات الوظيفية، ففكرة الوطن تضمن تماسكهم وعزلتهم وتَجرُّدهم اللازم للاضطلاع بوظائفهم المختلفة، بينما يساعد تكيفهم الفعلي على زيادة كفاءتهم وعلى أن يصبحوا في المجتمع دون أن يكونوا منه. وقد دعَّم تدوين التلمود هذه الازدواجية: الاستقلالية الإثنية النفسية من ناحية، والتكيف والاندماج الفعلي من ناحية أخرى؛ فالتلمود يضم التفاصيل الخاصة بشعائر الصلوات في الهيكل وكل التفاصيل الخاصة برداء الكاهن الأعظم والشعائر الخاصة بسنة اليوبيل والسنة السبتية، كما يضم أدق التفاصيل الخاصة بما سيحدث بعد عودة الماشَّيح إلى صهيون وكل الشعائر الخاصة بحياة اليهودي خارج مجتمع الأغيار، أي إن التلمود كرَّس عزلة أعضاء الجماعة وقننها وزود فكرة الهوية اليهودية بإطار واضح وتَحوَّل هو ذاته إلى (وطن اليهود - الوهمي - المتنقل) الذي يشكل نقطة مرجعية نفسية دون أن يكون مأوى حقيقيًا لهم.
ولكن أهم العوامل التي أدَّت إلى تَحوُّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب. وقد أشرنا إلى أن ظهور مثل هذه الجماعات يعود عادةً إلى وجود ثغرة في المجتمع بين رغباته وحاجاته من جهة، ومقدرته