وإلى جانب التطور في نظرية الميزان فهناك قرائن أخرى كثيرة في مجموع جابر الذي يمكن ترتيب معظم أجزائه بحسب تتابعها الزمني بناء على ما ورد فيها من إشارات بعضها إلى بعض. فهى لا تسهم في كشف مراحل تطور العلم الجابرى فحسب، بل تسهم كذلك وبأوسع نطاق فى تتبع نقل معارف ومؤلفات آداب الاختصاص عن حضارات أخرى تتبعا أفضل. وترجع الأهمية المرموقة لهذه المسلمات بصورة خاصة إلى أن عمل جابر العلمي يقع في القرن الثاني للهجرة، القرن الذى يوصف بشكل رئيسى- بالرغم من الأعمال البارعة العديدة فيه- على أنه حقبة الاستيعاب التى لا يعرف عنها إلا القليل جدّا. فضلا عن ذلك فإن لنا فى مجموع جابر، بما اتصف به من جوانب كثيرة وأصالة وقدرة على الإنتاج مذهلة، لنا فيه مصدرا لا ينضب معينه. هذا وللمجموع أهمية عظيمة جدّا بالنسبة لعرض وإيضاح المنجزات العلمية في الحقبة الواقعة بين زمن ازدهار العلم اليوناني وبين جابر. ولا نملك أن نتتبع ونستوعب المنجزات العلمية التى حصلت فى القرون الأخيرة التى سبقت الإسلام، فى كتب عالم من العلماء الآخرين، كما نملك ذلك فى كتب جابر. ومن الظواهر التى تميز المجموع عن منجزات القرون اللاحقة، أن مصادر جابر كانت فى معظمها من تلك الحقبة، ولهذا كانت فى غالبها كتبا مزيفة لم يرجع فيها إلى المصادر اليونانية الأصيلة بشكل رئيسي إلا فى أحدث كتبه الأخيرة. صحيح أن بعض أعمال جابر بلغت مستوى لم يعل عليه في تاريخ العلوم العربية الإسلامية، إلا أنه من جهة أخرى، ينقص عنده بالطبع كثير من منجزات القرون التى جاءت بعده وستأتى دراسات مقبلة، تتحرى اكتشاف ما خلى عند جابر من تطور فى العلوم الإسلامية العربية المتأخرة، ستأتي بقرائن جديدة مستمرة تؤكد زمن نشأة المجموع كما جاء رواية.
وربما كان من المفيد جدّا في دراسة من هذا القبيل أن يرجع إلى كتاب جابر في تحديد العلوم. ومهما كان إطار علم جابر عريضا واسعا، ومهما بدا تركيب ذلك الكتاب متقنا وأصيلا، فهناك فرق كبير بينه وبين مؤلف من الطراز نفسه وفي الموضوع ذاته من مؤلفات القرن الثالث/ التاسع أو القرن الرابع/ العاشر. و «كتاب الحدود» هذا هو من