للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَأَحْبَبْتُ، بِشَفَاعَتِي، أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ" (١). فجعل مدَّة بقاء الغصنين رطبين حدًّا للتَّخفيف عنهما، وليس سببًا لِلتَّخْفِيفِ.

ولذلك لا يكون لأحد أنْ يأتي بعسيب فيغرسه على قبر؛ لأنّه لم يُكشف له أن هذا الميِّت يُعذَّب، بخلاف النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الّذي كُشِفَ له، فالاطّلاع على عذاب القبر من الغيب الَّذي لا يظهره الله تعالى إلَّا على رسول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ... (٢٧)} [الجنّ]، فَفِعْل ذلك يفهم منه أنَّه يعذب في قبره، وهذا فيه ادِّعاء بمعرفة الغيب، واتِّهام لصاحب القبر أنَّه يعذَّب، ثمّ إنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم على فعل ذلك، ولم يجعله على كلِّ قبر، ولم يتابعه أحد من الصّحابة? .

ومن العلماء من يرى جواز وضع الجريد، وأنّ الحديث عَلَى عُمُومِهِ، واستدلّوا بالأثر عند البخاريّ وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ: «أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ» (٢). ولا حجّة فيه؛ لأنّه رأي، ولا نعلم أحدًا من الصحابة - رضي الله عنهم - وافقه، ولذلك فإنّ البخاري -رحمه الله- عقَّبه قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: «انْزِعْهُ يَا غُلامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ» وذلك لمّا رأى فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فكأنّه يرى أنّ ما ينتفع به الميّت عمله الصّالح. ويدلّك على رجحان المنع أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وضع الجريد بسبب أنّهما يعذبان، وهذا السّبب مجهول بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا ولا يمكن معرفته، فمن أراد أن يحمل الحديث على العموم، يلزمه أن يفعل ذلك لِلسَّبَبِ نَفْسِهِ.


(١) مسلم "صحيح مسلم" (ج ٤/ص ٢٣٠٦) كِتَابُ الزُّهْدِ.
(٢) البخاريّ "صحيح البخاري" (ج ٢/ص ٩٥) كِتَابُ الجَنَائِزِ.

<<  <   >  >>