للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان سُحْنُونٌ يُلقِّنُ ابنَ القَصَّارِ في مرضِ موتِهِ: "أَلَّا تَخرُجَ على الأئمَّةِ بالسَّيْفِ، وإنْ جارُوا" (١).

وأكثَرُ مَن يتجرَّأُ في هذا الباب: مَن يتوهَّمُ نصرةَ العامَّة، والعامَّةُ يُطلِقُونَ الألسُنَ، ويجبُنُونَ عند إطلاقِ الرِّمَاح، والعالِمُ لا تَخدَعُهُ كثرةُ العامَّةِ عند تقريرِ الحقّ.

وقد كان ابنُ فَرُّوخٍ قاضي القَيْرَوانِ مِن تلامذةِ مالكٍ، رأى الخروجَ على العَكِّيِّ؛ حيثُ كان رجُلَ سُوءٍ، وتواعَدَ ابنُ فَرُّوخٍ مع قومٍ على أن يكونَ اجتماعُهم ببابِ تُونُسَ، فذهَبَ ابنُ فروخٍ لمكانِ المَوْعِد، وتخلَّفوا عنه؛ فلم يأتِ إلا محمَّدُ بنُ منوتا مِن المدنيِّين، وابنُ مُحرِزٍ القاضي مِن العراقيِّين، فرجَعَ ابنُ فروخ.

وحينما أراد الذَّهَابَ إلى مِصْرَ، وشيَّعه الناس، التفَتَ إلى أصحابِهِ، فقال: "اشهَدُوا أنِّي رجَعْتُ عما كنتُ أقولُ به مِن الخروجِ على أئمَّةِ الجَوْر، وتائبٌ إلى اللهِ منه".

وكان ابنُ فَرُّوخٍ يرى الخروجَ قبل ذلك؛ إذا اجتمَعَ ممَّن يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكَر عدَدُ أهلِ بَدْرٍ، وليس كلُّ مَن صحَّ الخروجُ عليه تأصيلًا، جاز عملًا وتطبيقًا، حتَّى تكونَ القُدْرةُ ويَغلِبَ الظنُّ لا توهُّمًا واغترارًا (٢).

وقد رجَعَ ابنُ عُمَرَ عن قتالِ نَجْدةَ الحروريِّ لما رأى العامَّةَ معه؛ حتى قيل له: "إنَّ الناسَ لن تخرُجَ معك إليه، وستترُكُكَ وَحْدَك" (٣)؛ مع أنَّ قتالَ نَجْدةَ مشروعٌ، ومندوبٌ إليه.


(١) "رياض النفوس" (١/ ٣٦٧ - ٣٦٨). وقد سبق.
(٢) "ترتيب المدارك" (٣/ ١١١ - ١١٢).
(٣) "السُّنَّة" لعبد الله (١٥٢٨).

<<  <   >  >>