للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأهلُ السُّنَّةِ: جعَلُوا الوَلَاءَ للإمامِ تحتَ الولاءِ لله؛ كما قال اللهُ عن بَيْعةِ الصحابةِ لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وهو معصومٌ-: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: ١٠]، وجعَلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الطاعةَ بالمعروفِ لا في معصيةِ الله في أحاديثَ متواتِرةٍ.

وربَّما يبلُغُ ببعضِ غُلَاةِ المُرجِئةِ: بُغْضُ مَن يُبغِضُهُ السُّلْطانُ، وحُبُّ مَن يُحِبُّه، وقد يبلُغُ ببعضِهم عَقْدُ الولاءِ والبراءِ على السُّلْطانِ مَبْلَغًا أعظَمَ مِن عَقْدِهِ لله، ولو لم يَظْهَرْ ذلك مِن قولِهم، فربَّما ظهَرَ مِن فِعْلِهم؛ فيوالُونَ مَن والى الحاكِمَ ولو عادى اللهَ بالزَّنْدَقةِ والمُجُونِ، موالاةً أكبَرَ مِن الولاءِ لمَن عادى السُّلْطانَ ونابَذَهُ -سواءٌ كان مُصِيبًا أو مُخطِئًا- ولو كان مِن أهلِ الوَلَايةِ للهِ بالعلمِ والدِّيَانة، وقد كان ابنُ أبي دُؤَادٍ يوالي الجاحِظَ؛ لكونِهِ يوافِقُ السُّلْطانَ، ويعادي أحمدَ بنَ حَنْبلٍ؛ لأنَّه يخالِفُه.

مع كونِ الجاحِظِ -مع أَدَبِهِ وبَلَاغَتِه- مُتَّهَمًا بالزَّنْدَقة، وقد ذمَّه تلميذُهُ ابنُ قُتَيْبةَ ووصَفَهُ بأنَّه مِن أَكذَبِ الأُمَّة، وأَوضَعِهم لحديث، وأنصَرِهِم لباطِل (١)، وأنَّه لا يصلِّي ولا يصومُ، وقال بِعُذْرِ عَوَامِّ اليهودِ والنصارى والمَجُوسِ (٢)، وكفَّر بعضَ أقوالِهِ جماعةٌ؛ كالباقِلَّانِيِّ، وابنِ قُدَامةَ (٣).

ومع هذا يعادُونَ أحمدَ بنَ حَنْبلٍ، ويقرِّبُونَ الجاحِظَ، ويَلِينُونَ معه؛ لأنَّ ولاءَهم ليس لله؛ وإنَّما لِمَا عليه السُّلْطانُ، وإذا كان العالِمُ لَيِّنًا مع زِنْدِيقٍ، وشديدًا على عالِمٍ مجتهِدٍ، فتلك مِن أظهرِ علاماتِ الهَوَى، ولو سوَّد الصُّحُفَ بنصوصِ السُّنَّةِ والأَثَر!


(١) "تأويل مختلف الحديث" (ص ٥٩ - ٦٠).
(٢) "الفصل" (٤/ ١٤٨).
(٣) "روضة الناظر" (٢/ ٣٥٠ - ٣٥١).

<<  <   >  >>