للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وربَّما فسَّر بعضُهُمُ الفِتْنةَ بمقدارِ ما يُسخِطُ الحاكِمَ، لا بمقدارِ ما يُسخِطُ اللهَ؛ فيتناقَضُونَ في تقديرِ أشياءَ مُتساوِيات، بل يَعكِسُونَ المُتبايِنات، فربَّما هان في أنفُسِهم ما أسخَطَ اللهَ، وعَظُمَ فيها ما أسخَطَ السُّلْطانَ.

وصِلَةُ المحكومِ بالحاكِمِ تؤثِّرُ فيها العِلَلُ النَّفْسيَّةُ والأطماعُ بطَرَفَيْها: الإفراطِ والتفريطِ:

فمنها: نفوسٌ تُحِبُّ التذلُّلَ والغُلُوَّ بتعظيمِ رؤوسِ الناسِ، ورُبَّما يَكسُونَ عِلَّتَهم النَّفْسيَّةَ وأطماعَهم بالدِّينِ والاستدلالِ بأدلَّته، وهذا يُوجَدُ في كلِّ مِلَّةٍ قديمًا وحديثًا؛ لأنَّ الله عظَّم الاجتماعَ لمصالِحِ الناسِ، فرأَوْا أنَّ هناك رعايةً إلهيَّةً للملوكِ، وليسوا محلَّا لتقويمٍ ولا اعتراضٍ مِن أَحَد؛ لأنَّ لديهم تفويضًا إلهيًّا؛ كما عند الرُّومَانِ واليُونَانِ! وفي اليابانِ: يَرَوْنَ المِيكادُو (المَلِكَ) هو اللهَ! وفي الهِندِ: يَرَوْنَ أنَّ للملوكِ سُلْطةً مِن الإلهِ الأكبَرِ (بَرَاهْمَا)! ونحوُهم الصِّينِيُّونَ، وفي مِصرَ: اعتقَدَ الفَرَاعِنَةُ المِلْكِيَّةَ الإلهيَّةَ (١)!

ويستَغِلُّ النصوصَ السماويَّةَ في السمعِ والطاعةِ سَلَاطِينُ وأتباعٌ لهم يَرَوْنَ طاعتَهُمْ دِينًا بلا استثناءٍ؛ كالحَجَّاجِ بنِ يُوسُفَ في الإسلام، وكان حَسَّانُ أبو المُنذِرِ حَجَّاجِيًّا؛ يقولُ: "مَن خالَفَ الحَجَّاجَ، فقد خالَفَ الإسلامَ! " (٢).


(١) انظر: "الموسوعة الميسَّرة" (٢/ ٧٣٢، ٩٨٥)، و"النظام الدستوري في اليابان" (ص ٥٥)، و"نظرية الدولة" (ص ٤٧).
(٢) "الثقات" لابن حبان (٥/ ٤٢١).

<<  <   >  >>