للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كالأعجميَّةِ غيرِ المفهومة، أو كما يَرَى القارئُ خطوطَ الأممِ السابقةِ الأثريَّةَ مِن أصحابِ اللغاتِ البائدة، إلا أنَّ حروفَ القرآنِ مقدَّسةٌ، ولكنَّ الجهلَ بالمعنى واحدٌ.

وهذا غلَطٌ شنيع، وقدحٌ في بيانِ القرآنِ ومقاصِدِه، وفي الحكمةِ الإلهيَّةِ مِن التنزيل؛ وفي هذا قال الإمامُ المَدَنيُّ عبدُ العزيزِ الماجِشُونُ قرينُ مالكٍ -لما نظَرَ مرَّةً في شيءٍ مِن سلبِ الصفات-: "هذا الكلامُ هَدْمٌ بلا بناء، وصفةٌ بلا معنًى" (١).

ويَدُلُّ على أنَّ الأئمَّةَ لا يريدونَ بقولهم: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ" تفويضَ إثباتِ الحقيقةِ: أنَّ مالكًا سُئِلَ عن رؤيةِ الله؟ فقال: "يَرَوْنَهُ بأَعْيُنِهِمْ" (٢)، ثُمَّ سُئِلَ عن أحاديثِ رؤيةِ اللهِ؟ فقال: "أَمِرُّوها كما جاءَتْ" (٣).

وهذا كلُّه ليس تناقُضًا مِن مالكٍ، بل إنَّ الإمرارَ لا يُنافِي الإقرارَ بالحقيقة، بل تفويضُ كيفيَّتِها إلى اللهِ لا تفويضُ إثباتِها.

وقراءةُ القرآنِ والبيانُ فيه يقتضي إثباتَ حقيقةِ الصفاتِ ومَعَانِيها الصحيحةِ، وما زاد عن ذلك، فهو منفيٌّ مِن التكييفِ والتشبيهِ والتمثيل، والتأويلِ والتعطيلِ؛ فالمفسِّرُونَ يَعلَمُونَ أنَّ الحقيقةَ معنًى مقصودٌ في الآيةِ، ويستقِرُّ في نفسِ القارئِ؛ كما قال يزيدُ بن هارونَ: "مَن زعَمَ أنَّ الرحمنَ على العرشِ استَوَى على خلافِ ما يَقَرُّ في قلوبِ العامَّةِ، فهو جَهْمِيّ" (٤).


(١) "سير أعلام النبلاء" (٧/ ٣١٢).
(٢) "الشريعة" (٥٧٤)، و"شرح أصول الاعتقاد" (٨٧٠).
(٣) سبق قبل قليل.
(٤) "السُّنَّة" لعبد الله (١١١٠).

<<  <   >  >>