للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومرادُهُ بالعامَّةِ: أهلُ السليقةِ، والفِطْرةِ الصحيحةِ؛ الذين يَقْرَؤُونَ آيةَ الاستواءِ، ويقرؤونَ قولَهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١]؛ فيَرَوْنَ أنْ لا تناقُضَ ولا تضادَّ بين إثباتِ الحقيقةِ، ونفيِ التمثيل.

وهذه العباراتُ لم يكنْ يعبِّرُ بها الصحابةُ ولا كبارُ التابِعِينَ؛ لأنَّ أقوالَ التعطيلِ أو التمثيل لم تكنْ قد ظهَرَتْ في زَمَانِهم؛ ولَمَّا ظَهَرَت بعد ذلك أراد أولئكَ الأئمَّةُ دفعَ تلك البِدْعةِ، لا نفيَ معاني الصفاتِ وحقائقِها مِن الأخبار؛ فهذا قَدْرٌ يُقِرُّونَ به؛ ويفسِّرُ ذلك نصوصُهُمُ الأُخرى.

والإمرارُ في قولِهم: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ"؛ يعني: الإثباتَ والإقرارَ بحقائِقِها؛ لأنَّ هذا مما جاءت به، والمنفيُّ في الشريعةِ: التشبيهُ والتمثيلُ في قولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١]، وما كان سوى التمثيلِ مِن إثباتِ الحقائقِ والمعاني الصحيحةِ، فليس منفيًّا، بل هو مقصودٌ في نصوصِ الوحيِ.

ولهذا يقولُ مالكُ بن أنَسٍ: "الاستواءُ معلوم" (١)؛ يعني: ليس حروفًا، وإنما هو حقيقة، وإثباتُ حقيقتِهِ لا يعني تشبيهَهُ بغيرِه.

ولمَّا ضَعُفَ اللسانُ العرَبيُّ، وراجَتْ مقولةُ التشبيه، والمقالاتُ ضِدَّها، وفسَدَتِ السليقةُ بإثباتِ الحقيقة، والمعاني الصحيحة-: مال بعضُهم: إلى مذهَبِ التفويضِ؛ للخلاصِ مِن تلك البِدَع، وبعضُهم: أراد للعَوَامِّ السلامةَ مِن تلك الآفاتِ؛ كما قالَهُ الغَزَاليُّ (٢).

حتى شاعَتْ تلك المقالةُ بسببِ أخذِ بعضِ فُضَلاءِ أهلِ الحديثِ


(١) "شرح أصول الاعتقاد" (٦٦٤)؛ بمعناه.
(٢) كما قرَّره في كتابه "إلجام العوام".

<<  <   >  >>