للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ص ٥٥] الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة

قال أبو ريَّة: (ثم سار على سبيلهم كلُّ مَن جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدِّم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه).

أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبرة بالواقع. فإن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين فأكثر، وكثيرًا ما يتعدد الرواة عن الصحابي، ثم عن التابعي، وهَلُمَّ جرًّا.

فأما الصحابة فقد تقدم حالهم. وأما التابعون، فقد يتحفَّظون الحديث كما يتحفَّظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه «كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه» (١). هذا مع قوّة حفظه؛ ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة ــ وكان أعمى ــ فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفًا ثم قال: «لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة» (٢). وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفَّظون ما كتبوه، ثم منهم من يُبقي كتبه ــ راجع (ص ٢٨) (٣) ــ ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب. وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رُزِقُوا جَودة الحفظ


(١) أخرجه أبو نعيم في «الحلية»: (٢/ ٣٣٥)، والخطيب في «الجامع» (٤٦٣). والعويل: رفع الصوت بالبكاء، والزويل: الحركة.
(٢) ذكره البخاري في «التاريخ الكبير»: (٧/ ١٨٦)، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية»: (٢/ ٣٣٤).
(٣) (ص ٥٥ ــ ٥٦).