للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن كذبه قد ينكشف عن قُرب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدِّحًا بكذبه. وأعْرِفُ من المُقلّين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظنَّ أنه يتحصَّل به على مقدار كبير. فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشدّ، والمتديّنون من الكذب فيه أبعد وأبعد.

فإن قيل: قد ذكر أهلُ الحديث أنّ جماعةً صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها [ص ٢٠٧] وذكروا في الهيثم بن عدي ــ وهو ممن يكذبون ــ أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.

قلت: أما صالحٌ يتعمَّد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يُقاس به من عُرِف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتَّهم كلُّ إنسان بكلِّ نقيصةٍ عُرفت لغيره، ولو عُرف بأنه من أبعد الناس عنها.

فأما الهيثم بن عدي؛ فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدّوري قال: «حدثنا بعضُ أصحابنا قال: قالت جاريةُ الهيثم بن عدي: كان مولاي ... » (١). والجارية لا يُعرَف حالها، والمُخْبِرُ عنها لا يُدرى مَن هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مرَّ، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة.

هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أنَّ ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة؛ فمَن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذِّبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه


(١) انظر «تاريخ بغداد»: (١٤/ ٥٣)، و «السير»: (١٠/ ١٠٤).