للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يطلب الحديث يطلبه ليُذْكَر ويَشْتَهِر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظِّموه.

وأقول: إنّ العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسّر ما يُرَغِّب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شَرَع حفظَ السنّة وتبليغها، ومع ذلك يسَّر ما يرغِّب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قلَّ ثواب بعض المجاهدين، فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قَلَّ أجر بعض الطالبين.

وذكر أبو ريَّة ص ٣٣٠ كلمات لبعض المحدِّثين في ذمِّ أهل الحديث يَعْنُون طلابه، التقطها من كتاب «العلم» لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (١٢٥: ٢) (١): «وهذا كلامٌ خرج على ضَجَر، وفيه لأهل العلم نظر».

وإيضاحُ ذلك: أنَّ الرغبةَ في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخٌ ثقة معمّر مكثر من الحديث قَصَده الطلابُ من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم مَنْ لا سَعَة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النَّفَقة قدرٌ محدود يتقوّت منه حتى يرجع، أو يلقى تاجرًا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كُلُّ نفقته جِراب يحمله، فيه خبزٌ جافّ يتقوَّت كلَّ يومٍ منه كسرة يبلّها بالماء ويجتزئ بها، ولهم في ذلك قَصَص عجيبة (٢).


(١) (٢/ ١٠١٦).
(٢) انظر طائفة منها في «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، وفي كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب.