للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا حال التفسير الأول. وأما التفسير الثاني فلا أدري، غير أنه يشهد له صنيع أبي ريَّة في ما يأتي مِن كتابه؛ مِنْ ردِّ الأحاديث والأخبار الثابتة، والاحتجاج كثيرًا بالضعيفة والواهية والمكذوبة، والله أعلم.

قال ص ١٣: (ولا يتوهمنَّ أحد أني بدع في ذلك، فإنّ علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلَتْه إليهم كتب السنة، فليسعني ما وسعهم بعد ما تبيَّن لي ما تبيَّن لهم، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمل سيل الرواية، سواء كان صحيحًا أم غير صحيح؛ ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم) (١).

أقول: لم يجهل أحدٌ من أهل العلم ما قدّمته قريبًا في شأن صحة الحديث، ولكنهم لا يجيزون مخالفةَ حديثٍ تبيّن إمكان [ص ٧] صحته ثم ثبت صحة إسناده، ولم يُعْلَم ما يقدح فيه أو يعارضه. وأبو ريَّة يعيب عليهم هذا، ويبيح لنفسه أن يعارض نصوص القرآن وإجماع أهل الحق بأحاديث وأخبار وحكايات لا يُعْرَف حال أسانيدها، ومنها الضعيف والواهي والساقط والكذب، ويكثر من ذلك كما ستراه.

قد يقال: ربما يدّعي أنه أصبحت له مَلَكَة وذوق يَعْرِف بهما الصحيح بدون معرفة سندٍ ولا غيره!

أقول: هذه دعوى لا تقع من عاقل يحترم عقول الناس، وقد قال أبو ريَّة ص ٢١: (قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدِّق بعض ما يفتريه المنافقون). ونقل ص ١٤٢ عن صاحب "المنار" (٢) ــ محتجًّا به ــ قولَه: (والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم


(١) حُذفت الفقرة من الطبعات اللاحقة لكتاب أبي ريَّة.
(٢) صاحب "المنار" هو السيد محمد رشيد رضا (ت ١٣٥٤)، و"المنار" هي مجلته المشهورة. وسيناقشه المؤلف كثيرًا في هذا الكتاب.