للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلو كان عذاب القبر شهادة وحساً، لكان فضيحة للمعذب، ولكان هذا قلقاً على أهله وذويه، إذ يسمعون صياح صاحبهم، فلا يقر لهم قرار، لكن من رحمة الله تعالى، أن جعله غيباً لا يعلم عنه، ولو سمع الناس صراخ المعذبين لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان (١).

رابعاً: أن الله جل وعز يجعل في الأجسام خاصة الإحساس مع الإنفراد عن الأرواح، وهذا أمر لا يعجزه ولا يمتنع في قدرته، فإذا وردت الآثار وجب ترك المعقول الظاهر معه (٢).

٣ - قال المنكرون: نحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يجلس ويقعد ويضرب بمطارق من حديد، ولا يظهر له أثر؟

الرد: أن ذلك غير ممتنع، بل له نظير في العادة، وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاماً لا نحس نحن شيئاً منها، وكذا يجد اليقظان لذة وآلاماً لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبره بالوحي الكريم، ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلي (٣).

فإذا كان النائم يحصل لروحه وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به، والذي إلى جنبه لا يحس به، حتى قد يصيح النائم من شدة الألم، أو الفزع الذي يحصل له، ويسمع اليقظان صياحه، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينيه مغمضة، ولو خوطب لم يسمع، فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يسمع قرع نعالهم، وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، فلا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلما يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل وأبلغ وأتم، وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لإمكان ذلك (٤).


(١) ابن عثيمين: شرح رياض الصالحين، دار الوطن - الرياض، ١٤٢٦ هـ (١/ ٤٥٧)
(٢) محمد الطبري: الإيضاح في أصول الدين: ص (٣٧٩)، الآمدي: غاية المرام: (١/ ٣٠٤)، القرطبي: التذكرة: ص (١٤٠).
(٣) النووي: شرح مسلم، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط ٢ - ١٣٩٢ هـ (١٧/ ٢٠١).
(٤) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف: (٤/ ٢٧٦، ٥/ ٥٢٥)

<<  <   >  >>