للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ففريق ذهب إلى أنَّ المراد بالهم هنا: الوارد أول ما يرد على القلب، فيستخير العبد عند وروده، فينظر ببركة الدّعاء والصلاة ما الخير، وهؤلاء يعلّلون تفسيرهم هذا بأنّه لو تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته- فإنَّه يخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه.

وفريق يرى أنَّ الهمّ في الحديث العزم: لأنَّ الخاطر لا يثبت، فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التصميم على فعله، وإلّا لو استخار في كلّ خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته (١).

والذي يظهر لي أن الهم هنا ليس مجرد الخاطر، ولا العزيمة، وإنّما أراد به الميل إلى الفعل قبل أن يصل إلى مرحلة العزم والتصميم، إذ الخاطر ماض عابر، وما عزم على فعله لا يستخار فيه.

إذا ثبت أن الهمَّ نوعان: هم عزم وتصميم، وهمّ ليس كذلك، وثبت أنَّ العزم لا يكون إلا جازما، لأنَّ العزم في لسان العرب: "ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله" (٢) -إذا ثبت ذلك؛ بطل استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ... ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتَبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة" (٣) - على أن العزم معفو عنه، وممّا يدلّ على بطلان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فعملها"، "فلم يعملها"، ففيهما دلالة على أن هذا التقسيم في الحديث هو في رجل يمكنه الفعل فلم يفعل، وهذا ليس بجازم الإرادة، فالإرادة الجازمة لا تتخلف إذا وجدت القدرة التامة.

ومما يدل على أن الهم في الحديث ليس هو العزم قوله -صلى الله عليه وسلم-


(١) فتح الباري (١١/ ١٨٥).
(٢) لسان العرب مادة (عزم).
(٣) سبق تخريجه.

<<  <   >  >>