جديدة من البحث. وقد ذهب بعضُ المناطقة، وبخاصة منهم من تأثَّر بنظرية التواصل، إلى أن دراسة المغالطات ليست بديلًا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح، فما دامت المغالطات هي انحراف عن القواعد الضمنية التي تحكم شتى أصناف التداول الحِواري فإن الأجدر بنا أن نركز على دراسة هذه القواعد وألا نقنع بدراسة الانحرافات، يرى هؤلاء أن دراسة المغالطات لا تكفي لإجادة التفكير الاستدلالي مثلما أن معرفة الأخطاء في لعبة كرة القدم مثلًا لا تكفي لإجادة اللعب، إنما ينبغي أن نتجه مباشرةً إلى دراسة قواعد الجدل الصحيح ومعايير الاستدلال الصائب.
ورغم وجاهة هذا الرأي فإن تَفَشِّي المغالطات المنطقية في واقعنا اليومي، وطغيانها على تفكيرنا كله، حقيقٌ بأن يَرُدَّ إلى نظرية المغالطات أهميتَها الأولى ويُعيدَها إلى الصدارة من جديد، يقول مالبرانش:«لا يكفي أن يقال إن العقل قاصر، بل لا بُدَّ من إشعاره بما هو عليه من قصور، ولا يكفي أن يقال إنه عرضةٌ للخطأ، بل يجب أن نكشف له عن حقيقة هذا الخطأ.» وهذا قولٌ صادق، إذ لا يكفي من أجل تمييز الحق أن نُحدد شروطه فحسب، بل لا بُدَّ أيضًا لكي يكون التمييز واضحًا كل الوضوح أن نُبيِّنَ أين يكون الغلطُ حتى يظهرَ الحقُّ أجلى وأوضح، كالنور يكون أجلى بجوار الظلمة منه لو أخذ وسط فيض آخر من النور، ثم إن الأضداد إن لم تكن واحدة كما يقول هيجل، فهي على الأقل مرتبطة تمام الارتباط سواء من الناحية العقلية ومن الناحية الوجودية؛ ولهذا كان العلم بالأضداد كما يقول أرسطو علمًا واحدًا، فإذا كان تمييز اليقين في التفكير الإنساني موضوع المنطق، فكذلك تمييز الخطأ فيه يدخل في بابه، (١) يؤثَرُ عن الإمام الشافعي قوله: «مَثَلُ مَنْ يطلب العلم جُزافًا كمثل حاطب ليلٍ يقطع حزمة حطبٍ فيحملها، ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري.»
ويقول شوبنهاور:«يتوجَّب على مَنْ يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حِيَل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفَها ويتعاملَ معها.» عليك إذن أن تلم إلمامًا جيدًا بالمغالطات المنطقية حتى يتسنَّى لك أن تتجنب الطرقَ المسدودة أثناء الحوار وتتعرف على «النقلات الخاطئة» في الجدل، وأن تُظهِرَ خصمَك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبَه، بل أن تُقيِّض لهذا الخطأ اسمًا؛ لكي يعلم الخَصمُ أنك تجيد التفكير، وتفهم حجته ربما أكثر منه! كما
(١) عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي»، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨١، ص ٢٤١.