للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك أن الحجة حين تَرِد في الواقع الحي لا تأتي مجردةً مُصَفَّاة، ولا تَكشفُ صيغتَها المنطقية للمتلقي بسهولةٍ وطواعية؛ إذن لَكان تمحيصُها أيسرَ عليه بما لا يُحد، إنما تأتي الحجة دائمًا ممتزجةً بلحم اللغة ودمها، متلفعةً بانفعالات الناس وأعرافِهم، مُؤَرَّبَةً بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.

وما تُشَكِّل الصيغةُ المجردةُ للحجة (المقدمات المؤدية إلى نتائج) إلا لُبًّا ضئيلًا أو هيكلًا نحيلًا متواريًا وراء طبقةٍ كثيفةٍ من الاعتبارات الدلالية semantic والتداولية pragmatic للغة، (١) ومن طبيعة الخصم وأيديولوجيته وسيكولوجيته، ومن مقام الحديث وسياق الجدل، ومن عواطف جمهور الحاضرين وانتماءاتهم وتحيزاتهم.

ونحن في مجال المنطق غير الصوري إنما يَنصَبُّ جهدُنا على هذه الطبقة الكثيفة التي تغلف اللب الصوري للحجة، نتلمَّسها ونتناولها بالتحليل والتفتيت، ونَنْفُذ منها إلى ذلك اللُّبِّ الصوري المفترض. في مجال المغالطات، على سبيل المثال، يكون عملُنا أشبهَ ب «أخذ صورة أشعة» x-raying للحجة المطروحة، عسانا نَطَّلِع على هيكلها الصوري المطمور، ونُقَدِّرُ نصيبه من الصواب والخطأ، ويكون معيارُنا في ذلك هو المعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال، وكثيرًا ما تَجْبَهُنا صورة الأشعة بغياب أي لُبٍّ صوري وانعدام أي هيكلٍ منطقي في الحجة!

[(٢ - ١) أمثلة لعملية التجريد في المنطق غير الصوري]

[مثال ١]

نقتبس هذا المثال من بين تلك «الحجج المندمجة» coalescent arguments التي أشار إليها ميشيل جلبرت، والتي تعبر في زعمه عن جملةٍ من المواقف سئ والاعتقادات والمشاعر والحدوس التي تميز صاحب الحجة، فهذه طالبةٌ جامعية تبكي في مكتب الأستاذ؛ كي تبثَّه


(١) السيمانطيقا semantics (علم دلالة الألفاظ، أو المعاني) هي الدراسة التي تتناول علاقة العلامات اللغوية بالعالم أو الواقع الخارج عن اللغة extralinguistic reality، أما البراجماطيقا pragmatics (التداولية) فهي المبحث الخاص بدراسة العلاقة بين العلامات اللغوية ومستخدميها من بني البشر.

<<  <   >  >>