للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كذلك الحال بالنسبة للتلسكوب والذكاء: ما لا يراه تلسكوبي ليس موجودًا هناك، وما لا يقيسه اختباري ليس ذكاءً، من البديهي أن المجرات موجودة، والذكاء موجود، الخَطْب أن طريقةَ قياسنا وفهمنا لها تتوقف بشدة على أدواتنا المتاحة.

[(١ - ٨) بروكرستية البحث الأكاديمي]

كلما طال الأمَدُ على البحث الأكاديمي ترسَّخت فيه معايير معينةٌ للدراسة، تتحول في النهاية إلى «سريرٍ بروكرستي» علينا أن نُطَوِّع له عملنا وننتقي ملاحظاتنا وبياناتنا بحيث تفي بالمعايير وتأتي على مقاس السرير!

يطول الأمدُ فننسى أننا أصحاب المنهج وصانعوه، وأننا مسئولون «عنه» بقدر ما نحن مسئولون «أمامه»! وما المنهج في نهاية التحليل؟ إنه عاداتٌ تحدِّد لنا الطريقة التي نُعرِّف بها الأشياء ونمارس العمل، عاداتٌ شكَّلتها أيديولوجياتٌ خفية (يسميها رولان بارت بالأساطير في السيميوطيقا الخاصة به)، ثم تَكَلَّست بفعل التكرار حتى أصبحت سريرًا بروكرستيًّا جاسيًا يحدد لنا حدودَ ما نقبله وما نرفضه، ويضع لنا مسبقًا معايير «الصدق» validity (١) في عملٍ يُفترَض فيه أنه ابتكارٌ دائمٌ وكشفٌ للخَفِي وارتيادٌ للمجهول، وما كان للحقيقة أن ترضخ لمنهجٍ صنعناه بأيدينا ثم عبدناه كإله من الحلوى، وما ظنك بمآل ذلك في كل مرحلةٍ من مراحل العلم القياسي؟ إنه العُقم وجفاف الدم في عروق البحث، تعقبه «أزمة» crisis وتراكم «شذوذات» anomalies ثم «ثورة علمية» scientific revolution تمس المنهج نفسَه فيما تمس.

الحق أن «المنهج» method و «الموضوع» object لا يمكن أن ينفصلا: لقد حدَّد لنا المنهج مقدمًا ما سوف نراه! لقد أنبأنا ماذا يكون الموضوعُ بوصفه موضوعًا؛ لهذا السبب يُعد كل منهجٍ تأويلًا بحد ذاته، غير أنه أحد التأويلات فحسب، والموضوع الذي يُرى بمنهجٍ آخر سيكون موضوعًا آخر. (٢)


(١) ما تزال كلمة validity تُتَرجم ب «الصدق» في مجالات العلوم الإنسانية، رغم ما ينطوي عليه ذلك من خلط بين «الصدق» الواقعي truth و «الصواب» الصوري validity.
(٢) د. عادل مصطفى: «مدخل إلى الهرمنيوطيقا»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٣، ص ٣٣.

<<  <   >  >>