للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الانفصال والتفكك الداخلي وظواهر التطرف والعنف والانتماءات الأولية (القبلية والإثنية والطائفية)، وتفككت دولٌ في الشرق والغرب وواجهت دولٌ أخرى خطر التفكك، لم يقَدِّر دعاةُ العولمة الأوائلُ سطوة الثقافات المحلية والنزعات القومية والأصولية ومقاومتها للتغيير، وإلى الأثر العكسي لقوى العولمة: مزيد من التفكك والحروب الطائفية والعرقية، وتصاعد قوى اليمين المتطرف وانتشار التزمت والإرهاب وصحوة الانتماءات البدائية الهاجعة. (١)

[(١ - ٥) البروكرستية السياسية]

تعمد البروكرستية السياسية إلى صب المواطنين جميعًا في قالبٍ واحد؛ تعميمًا للخير والتماسًا للعدالة، تَتَجَذَّر البروكرستية السياسية في «مذهب الماهية» essentialism الفلسفي، وهو الرأي القائل بأن «للأشياء خصائص ماهوية» de re essential properties، أي خواص ضرورية بمعزلٍ عن تصنيفاتنا وتعريفاتنا، للإنسان، من ثم، وماهيةٌ حقيقيةٌ تُميزه عن غيره من الكائنات: قد تكون هذه الماهية هي الروح العاقلة (الإنسان حيوان عاقل)، وقد تكون هي الميل إلى الحياة في تجمعات مدَنِيَّة (الإنسان حيوان مدني) … إلخ، المهم أن هناك ماهيةً ثابتةً محددة للإنسان بها يكون إنسانًا وبدونها يكون أيَّ شيءٍ آخر، هناك «مثال أفلاطوني» أو «صورة» eidos أو «فكرة» idea أزلية للإنسان ينبغي على الإنسان الحقيقي الأرضي أن يسعى إلى تجسيدها ويقترب منها.

كل أولئك أفكارٌ ميتافيزيقيةٌ مأمونة، لا ضير أن يتداولها الفلاسفة فيما بينهم ويختلفوا حولها على مقاعدِهم النظرية الوثيرة، يبدأ الخطر، رغم ذلك، حين تقعُ مثلُ هذه الأفكار في أيدي (أو بالأحرى رءوس) السياسيين أولي البأس وذوي القدرة على استخدامها في الواقع الحي ووضعها موضع التنفيذ، حين يقعُ للطاغية «المثالي» idealist تصورٌ واضحٌ عما تكونه الطبيعة البشرية فقد يرى نفسه مضطرًّا إلى فرضها بالقوة على رعاياه وصبهم في قالبها ضربة لازب، وسحق كل من تُحدِّثه نفسُه بالتمرد على هذا القالب الأزلي الواحد.


(١) انظر المزيد عن العولمة الثقافية في كتابنا «العولمة، من زاوية سيكولوجية» دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٦، ص ٥٥ - ٧١.

<<  <   >  >>