للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مهمةَ تفنيده بذكر مثال مضاد أو بضعة أمثلة، إنك إذن تقع في مغالطة «إغفال المقيدات» secundum quid. (١)

وقد يكون رأي الخصم معتدلًا فتزيحه أنت إلى حافة الشطط والغلو التي كثيرًا ما ينقلب عندها الرأي إلى مسخٍ غريب منفِّر (أو شيطان demon) هو أبعد ما يكون عن الموقف المتوازن الذي يتخذه الخصم: فينقلب «التحرر» مثلًا إلى «تحلل»، أو ينقلب «التحفظ» إلى «تزمت»، أو ينقلب «الحزم» إلى «قسوة»، أو تنقلب «الحصافة» إلى «جبن» … إلخ، يُطلق على هذه العملية، أي عملية قلب الموقف المعتدل إلى موقف متطرف، اسم «شيطنة» demonization (إضفاء الصبغة الشيطانية)، ويمكن بالتالي تسمية هذه المغالطة الفرعية اسم straw demon (شيطان القش).

كان دور رجل القش تاريخيًّا هو أن يُهوِّل مخاطر التغيير! يذكرنا التاريخ أن بضعةً من المفكرين والمصلحين يدعون إلى التحرر والتسامح قد تم سحقهم بفيالق جرارة من «رجال من القش» يدعون إلى الفوضى والإباحة وتدمير المجتمع … إلخ، وكان دور رجل القش سياسيًّا، وما يزال، هو تأليب الرأي العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زعماء الأحزاب الأخرى.

[(٤) كيف نحدد موقف الخصم الذي سنتناوله بالتفنيد]

علينا، مثلما أوصى أرسطو من قبل، أن نمثل رأي الآخرين، تمثيلًا أمينًا وكاملًا وجوهريًّا، ولن يتسنى ذلك إلا بأن نحدد قائمة التزامات الخصم بكاملها، تلك الالتزامات التي ألزم نفسه بها في الحوار، والمسجَّلة عليه كتابيًّا أو صوتيًّا من خلال أسئلته أو إقراراته التي طرحها طوال الحوار، المشكلة هنا مشكلة عملية: كيف يمكنك أن تثبت أن موقفًا ما لخصم ما قد تم تحريفه في حالةٍ معينة؟ الأمر هنا يتوقف على تأويل ما عناه الخصم بقوله، واستشفاف موقفه الحقيقي في مسألة معينة، وهي مهمة صعبة أحيانًا بسبب تعدد التأويلات الممكنة.

من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم التسجيل الدقيق لمجريات الحوار: صوتًا وكتابةً وشهودًا؛ وذلك لتجنب عثرة «أنت قلت/ لا لم أقل»، غير أنه ليس من الميسور في المجالات


(١) هي معاملة القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها مبدأ مطلق (أو العكس: أي معاملة الاستثناء معاملة القاعدة). انظر تفصيل هذه المغالطة في موضعها.

<<  <   >  >>