لم يشهد تاريخ البشرية حقبةً تزعزعَت فيها الروابط بين المجال البيئي والمجال الاجتماعي مثل هذه الحقبة التي نعيش فيها: النمو السكاني، الميكنة، التجديدات التكنولوجية المتسارعة، نحن اليوم بإزاء إيقاع من تغير الظروف بَلَغَ من السرعة مبلغًا لم تعرفه الأجيال السابقة، يَفرِض علينا أن نُعوِّل على مَلَكاتنا النقدية، وأن نغامر بتجريب طرائق جديدة واختبارها وانتخاب أفضلها، وأن نجعل النقد نفسه، والتجريب والاختبار، تقليدًا وعادةً وديدنًا.
[(٦) التطويع الاجتماعي؛ غسيل الدماغ المحتوم]
«تتم صياغة «الأنا الأعلى» super-ego (أو «البيئة المُدخلة» internalized environment) في فترة دقيقة خاصة من حياة الكائن البشري: فترة طفولة جبرية طويلة، فيها يتصل الكائن بالواقع لأول مرة، معتمدًا في إشباعاته على مَنْ يحيطونه من الوالدين وأشباههما من البالغين السابقين في تجربة الوجود، غير قَوِي على غير الخضوع والطاعة التماسًا للإشباع وتجنبًا للحرمان.
في هذه الفترة المتطاولة من الضعف والاعتمادية يتم دمج النماذج السلوكية الموروثة والمعايير الخُلُقية المقررة، يتم دمجها في الذات العليا مُشَكِّلةً أصل ما يُسمَّى بالضمير، وجذور ما يسمَّى بال «محافظة»(السياسية - الأخلاقية - الفنية - اللاهوتية … إلخ) التي تتحدد مهمتها في إطالة عمر «الوضع القائم» status quo ودعم التقاليد والنظم الاجتماعية السائدة التي أفرزتها ضروراتُ اقتصادية واجتماعية سالفة، وربطها بأعماق النفس وتغليفها بالهيبة والقداسة، ومقاومة كل تغيير فكري أو اجتماعي مهما تكن بداهتُه ووجاهته وجدارته بتخفيف آلام المجتمع وتحسين أحواله.
في هذه الفترة المستطيلة من الضعف والاعتمادية يتم بتر الدهشة وإخصاء التساؤل واصطياد «النقد» في الماء العكر.
وإن شيئًا تمت صياغتُه في ظروف من القهر والجبر، وفي حدود مما كان ومما هو كائن، لا يجمل ائتمانه على ما يأتي ولا استفتاؤه فيما ينبغي.» (١)
(١) عادل مصطفى: بشرف منطقي، في سبيل إعادة صياغة المشكلة الأخلاقية، مجلة «الإنسان والتطور»، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد ٣، يوليو، أغسطس، سبتمبر، ١٩٨٢.