موضوع الحديث، فتَهوِي إليها أفئدة الحضور ولا يعود أحدٌ يذكر الموضوعَ الأصلي، إنهم بذلك لا يُحاجُّون بل يصخبون ويتلاعبون ويتداهون وينفثون سحابات التمويه والتعمية، ويتحدَّثون في أيِّ شيء إلا الشيء المَعْنِي، وكثيرًا ما ينجحون في صرف الانتباه وتحويل مسار الحديث وتبديد النقاش، فينفردون بالساحة حقًّا ويبدون منتصرين في الجدل، وكأنهم يفوزون لتغيُّب الخصم!
تجتمع لجنة على سبيل المثال لمناقشة إجراء جديد للحد من تلوث الهواء، فينبري أحد الأعضاء ويتحدث عن الأعباء الضريبية التي تثقل كاهل المواطن، ويتصدَّى عضو آخر بحديث مطول عن سطوة الشركات المتعددة الجنسية التي تملك زمام العالم، وينبغي أن نضع حدًّا لهيمنتها وتسلطها، ويفيض ثالث في الحديث عن نوعية المناخ قديمًا وكيف كان الهواء أكثر (أو أقل) نقاءً عندما كان طفلًا يمشي كل يوم ثلاثة كيلومترات ليصل إلى مدرسته البسيطة التي كانت تقدس التعليم وتجعل منه رسالة لا وسيلة للابتزاز والربح … إلخ. انظر هل ترَى في هذه الاستطرادات أيَّ صلة بالموضوع الرئيسي الذي اجتمعت من أجله اللجنة، وهو بالتحديد: هل من شأن هذا الإجراء الجديد أن يحِدَّ من تلوث الهواء؟ هل ستكون إيجابياته أكثر من سلبياته؟ وهل ثمة إجراء أفضل من ذلك للحد من تلوث الهواء؟
(١) متى يكون التحول عن الموضوع مشروعًا؟
كثيرًا ما تتخذ المسائل المعقدة تراتبًا هرميًّا بحيث يتعذر حسم مسألة معينة قبل أن يتم حسم مسألة أخرى، مثال ذلك ما يجري في كثير من محاورات أفلاطون؛ في محاورة الجمهورية، على سبيل المثال، يتحول مسار الحديث إلى مسائل ميتافيزيقية وإبستمولوجية مجردة؛ وذلك لأننا لا يتسنى لنا الإجابة عن أسئلة عملية عن معاقبة المجرمين أو تربية الأطفال حتى نعرف أولًا ما هي «العدالة»، ولن نعرف ما هي العدالة حتى نعرف المقصود بمفهوم «الخير»، وهذه بدورها تتطلب تحليلًا كاملًا لعلاقة الأفكار بالعالم الفيزيقي!
هكذا نتبيَّن أن الوصول إلى اتفاق عقلاني قد يتطلب العودة بالحوار إلى أسئلة أكثر أساسية، ثمة إذن تحولٌ مشروع عن موضوع الحوار في بعض الأحيان: ذلك هو التحول إلى مسألة جذرية تمهد المسرح لمناقشة الموضوع المَعْنِيِّ وتُفْضي إليه، إنها لا تُغَشِّي عليه بل تزيده وضوحًا، ولا تذهب به طي النسيان بل تؤدي إليه وتضعه في نصابه.