اليومية المعتادة أن نتجنب هذه العثرة، وذلك لقصور الذاكرة البشرية من جهة، ولتفاوت الفهم وتأويل الأقوال من جهةٍ أخرى.
[(٥) مبدأ الإحسان principle of charity]
وهنا تتجلى أهمية المبدأ المسمى «مبدأ الإحسان» في تأويل النصوص وفهم الآخرين: فحيثما تشعَّبت التأويلات الممكنة لقول الخصم، فإن من الحكمة أن تفسر الشك لمصلحة الخصم وأن تتناول التأويل الأوجه والأقوى بالنقد والتفنيد.
وقد استَنَّ كارل بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدًا يعد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته، لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير، غير أن لهذه الطريقة عيوبًا كبيرة: ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف، ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها، ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر، لعل هذا هو السر في أننا قلَّما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلًا، فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم، إذ تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.
أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظريته أكثر فأكثر وسد ثغراتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه، إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصمًا جديرًا بمهاجمته»، وأن ينقَضَّ على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها، إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها، إذا ما نجحت، قاصمةٌ مدمِّرة، ومن الصعب أن تقوم لنظريته قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تمَّ تدميره. (١)
(١) نستثني من ذلك نقد بوبر لهيجل؛ وهو نقد غير مُنصف، ويعج بالقدح الشخصي والسب المقذِع، راجع كتابنا «كارل بوبر، مائة عام من التنوير ونُصرة العقل»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢، ص ١٥١ وما بعدها.