للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمر «واضح بذاته»، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشدٍ غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يُشيده المُؤوِّل الذي يظن نفسَه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة. لقد أماط هيدجر اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم. (١)

(٣) ستيوارت جوثري: «وجوهٌ في الغمام»

في كتابه Faces in the Clouds (وجوه في السحاب أو الغمام) يذهب جوثري S.Guthrie إلى أن ميلنا إلى أن نعثر على خصائص إنسانية في العالم غير الإنساني ينجم عن استراتيجية إدراكية غائرة: فبإزاء اللايقين الشامل بما نراه فنحن «نراهن» على التأويل الأوثق دلالةً بالنسبة لنا: فإذا كنا في الغاب مثلًا ولمحنا شبحًا داكنًا من بعيد قد يكون صخرةً وقد يكون دبًّا، فمن الحصافة أن نظنه دبًّا: فإذا كنا على خطأ لم نخسر شيئًا، وإذا كان على حق فقد ربحنا الكثير!

هكذا كلَّما تفرَّسنا العالم فنحن نفتش فيه عما يَعنينا أكثر من غيره نفتش عن الأشياء الحية، وبخاصة الأشياء البشرية، وحتى الحيوانات تفتش عن الخصائص والأمارات البشرية، مثلما يتبدَّى عندما تتجنب الطيور الفَزَّاعات (خيال المآتة)! وباختصار فنحن نتبع مبدأ السلامة، ذلك المبدأ الذي أعان الجنس البشري على البقاء حين كان الرهانُ الإدراكي باهظًا.

هكذا يتحلَّى الإدراك الأنثروبومورفي بقيمة بقاءٍ جعلت الضغوط التطورية تنتخب أولئك الذين اتَّبعوا مبدأَ السلامة ورهنوا على الرؤية الأنثروبومورفية، وهكذا أورَثَنا أسلافنا هذه النزعة الطبيعية: أن نخطئ، إن أخطأنا، في جانب السلامة، وهكذا صار مُبيَّتًا في الدماغ البشري أن يتوسم وجود بشر آخرين، أو آثار بشر، في الظواهر الطبيعية. (٢)


(١) Richard E.Palmer: Hermeneutics.Northwestern University Press، ١٩٦٩، p. ١٣٦.
(٢) Stewart E.Guthrie: Faces in the Clouds، a New Theory of Religion.New York: Oxford University Press، ١٩٩٣.

<<  <   >  >>