إن مقولات الفهم ومخططات الإدراك المبيَّتة في أدمغتنا قد شيدتها تجارب بشرية ولغات بشرية ومواضعات بشرية، ولا مندوحة لنا عن استخدام هذه المقولات categories وتلك المخططات schemata إنْ كان لنا أن نحظَى بأيِّ إدراك أو فهم على الإطلاق.
إن العالمَ يتراءى أمام أعيننا في تدفق كاليدوسكوبي مضطرب، ونحن نحدس أو نخمن بما نراه وفقًا للنموذج القائم في أدمغتنا عن العالم، والذي شيدته أدمغتُنا خلال تخمينات سابقة وما آلت إليه تلك التخمينات، في سلسلةٍ لا نهاية لها من المحاولة والخطأ، وبعبارة أخرى فإن ما نراه يتوقف على النموذج الذي نستخدمه، وإن النموذج الذي نستخدمه إنما شيدته تجاربُنا السابقة في الرؤية. يلخص توماس كون هذه الفكرة بقوله في كتابه «بنية الثورات العلمية»: «شيء يشبه البارادايم paradigm (النموذج الشارح) هو متطلب أساسي حتى في الإدراك نفسه، إن ما يراه المرء يعتمد على ما ينظر إليه لتوه، بالإضافة إلى خبرته البصرية السابقة وما علَّمَتْه أن يرى.» ويقول فييرابند: «حين نُعطَى مثيراتٍ ملائمة ولكن مع أنساق مختلفة من التصنيف (تهيؤ ذهني مختلف) فإن جهازنا الإدراكي ينتج موضوعات إدراكية لا تمكن المقارنة بينها بسهولة.» ويقول الأنثروبولوجي جون بيتي:«إنما يرى الناس ما يتوقعون أن يروه، ذلك أن تصنيفات إدراكهم تحددها إلى حد كبير، إن لم يكن كليًّا، خلفيتهم الاجتماعية والثقافية.» ويلخص فيلسوف العلم نوروود رسل هانسون N.R.Hanson كل ذلك في تعبير واحد أصبح مصطلحًا مأثورًا ومفهومًا محوريًّا في فلسفة العلم، هو أن الإدراك «مُحمَّل بالنظرية» theory-laden، ذلك أن خلفيتنا النظرية، تصوراتنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل في كيفية رؤيتنا له. (١)
ويذهب الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر إلى أن من المحال أن يتم فهمٌ على الإطلاق بغير فروض مسبقة أو «تحيزٍ» prejudice ما! فمحاولة الوصول إلى تأويل مُبرَّأ من أي تحيز أو فهم مسبق هي محاولة عابثة؛ لأنها تمضي في الحقيقة ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من الشيء أو «الموضوع» object هو ما يسمح له المرءُ أن يظهر، وذاك أمرٌ يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض
(١) انظر في ذلك فصل «نسبية الإدراك الحسي»، في كتابنا «صوت الأعماق، قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٤، ص ٢٣٨ - ٢٤٧، وانظر أيضًا ما قلناه في فصل «البروكرستية».