للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[(٥) هابرماس وعلاقات القوة في الوراثة الثقافية]

ليكن النقد والتمحيص والتنقيح هو العادة والتقليد والعُرف.

يذهب الفيلسوف الألماني يورجين هابرماس J.Habermas إلى أن التقاليد قد تَخلُق بُنَى اجتماعية وعلاقات قوة كفيلة بدورها أن تقمع الحجة وفقًا للعلاقات القائمة على السلطة أو الثروة، ومِن ثَمَّ فإن على المرء أن يميز بين تقليدٍ تؤيده أجيالٌ من الاختبارات وتقليدٍ تفرضه السيطرة والطغيان وتَحُول دون اختباره: إن التقاليد قد تُفرَض بالقوة لكي تَصُب في مصلحة الطبقة المسيطرة، وإن الظلم الاجتماعي لَيعوق تطور المجتمعات إذ يمنع انتخاب التنوعات التكيفية. (١)

وإذا كانت الممارسات الثقافية الثابتة هي أفضل ما أتيح تجريبه في الماضي، فقد تكون بعض التنويعات الجديدة التي لم يتم تجريبها جديرةً بأن تأخذ حظها من الاختبار الحصيف، وها هنا يكون الاتصال بين المجتمعات مصدرًا ثريًا للبدائل الجديدة والتحسينات الممكنة، ربما يكون الطب الشعبي، على سبيل المثال، أفضل العلاجات المكتشفة لدى ثقافةٍ ما، ولكن أفضلية الطب الحديث في علاج الأمراض المعقدة، كالسرطان، هي أمر لم يَعُد محل جدال.

صحيح أن التقاليد القديمة كانت عملياتٍ منتقاةً بالضغط الانتخابي، عمليات مجرَّبة أثبتت نجاعةً في زمنها وتحت ظروفها، ولكن ليس من الحكمة التمسك ببناءٍ فوقي بعد أن انفصم عن بنائه التحتي الخاص، وليس من الحكمة التشبث بتقاليد عتيقة بعد أن انبتَّت صلتها بأساسها القديم ولم تَعُد تلائم الأزمنة المتغيرة.

من الحكمة، كما يقول جون ستيوارت مِل، إن نفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك، وأن نتحلَّى برحابة الصدر والعقل تجاه كل غريبٍ مختلف، ذلك أن تعدد التجارب البشرية دليل ثراء وخصب، مثلما أنه سبيل تقدم وارتقاء، ومن شأن الزمن وحده أن يبين لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخذ به كعادةٍ ونكتسبه اكتسابًا. (٢)


(١) Ibid.p. ٢١٥.
(٢) انظر فصل «عن الحرية، جون ستيوارت مِل»، في كتابنا «صوت الأعماق»، دار النهضة العربية، بيروت ٢٠٠٤، ص ٥٥ - ٧٩.

<<  <   >  >>