للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأبعدها أثرًا، فيصور المجتمع العادل بأنه ذلك المجتمع الذي سوف تختاره الكائنات العاقلة لو أنها حُمِلَت على اختيار المؤسسات والقوانين «من وراء حجاب من الجهل» behind a veil of ignorance أي دون أن تعلم ما ستكونه مراكزهم الاجتماعية الفعلية، قد يسبق إلى الظن أن مثل هذه الكائنات حَرِيةٌ عندئذٍ أن تختار حالةً من المساواة المطلقة كأفضل رهانٍ لها. إلا أن رول يَبْدَهُنا بغير ذلك، ويقنعنا بالحجة أن هؤلاء المتعاقدين الأصليين الذين حُجِبَت عنهم الحقيقة هم حَرِيُّون أن يختاروا (ويَعُدُّوه عدلًا) نظامًا اجتماعيًّا ينطوي على تفاوتٍ في الثروة ما دام هذا التفاوت يجعل أقلَّ المواطنين حظًّا هو أفضل حالًا مما يكون عليه تحت أي توزيع بديل، بذلك يمكن أن تقوم حجة، باتباع طريقة رول، بأن الرأسمالية التنافسية هي نظام عادل رغم أن بعض الناس فيها أغنى من الآخرين بما لا يُقاس، إذ إن الأقل حظًّا في هذا النظام سيكون أسوأ حالًا وأشد فقرًا لو أنه كان في نظامٍ آخر أكثر مساواةً (ولكن أقل في الكفاية الاقتصادية). (١)

وعلى ذِكْر نظرياتِ العدل والبروكرستية الاشتراكية تقفز إلى الذهن أبياتٌ للعقاد تترجم شطرًا كبيرًا من هذا النقاش السياسي المحتدِم، يقول العقاد (على طريقته في استقصاء المعنى):

إنَّا نريدُ إذا ما الظلمُ حاق بنا … عدلَ الأناسيِّ لا عدلَ الموازينِ

عدلُ الموازينِ ظلمٌ حين تنصبُه … على المساواة بين الحُرِّ والدُّونِ

ما فَرَّقت كفَّة الميزان أو عَدَلَت … بينَ الحُليِّ وأحجار الطَّواحين

[(١ - ٦) بروكرستية الإدراك الحسي]

ثمة عنصرٌ بروكرستي في كلِّ إدراك حسي، وربما في كل إدراك ذهني على الإطلاق، فالإحساس البصري المحض، على سبيل المثال، لا يقدم لنا أكثر من بقعٍ فسيفسائية مبعثرة، هي «المعطيات الحسية» sense data (sensa)، ثم يأتي «المخطط الذهني» schema، أو «النموذج» أو «الجشطلت»، فيُضفِي هيئةً ومعنى معينًا على هذا الهُلام


(١) Earle، W.J.، Introduction to Philosophy.McGrow-Hill، Inc. ١٩٩٢، p. ١٩٩.

<<  <   >  >>